مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

تغيير مسار....قصة للأديب / محمد شعبان


 


إنه القدر .. نعم إنه القدر .. أبَى أن أُعلّق على شماعته خطأ هذه المرة كعادتي .. كانت تلك الليلة عامرةً بالقلق والترقّب .. تلك التي أنمْتُها فيها وهي دامعة العينين، يخضُّها الخوف مما توعدتُها به من الويل والثبور .. أتظنني نمتُ ليلتَها ؟! .. لا ـ والله ـ لم أنم ولم يهدأ لي جفن .. عبثُ الهواء بالستائر استفزَّني أكثرَ من مرة، ولم أُكذبه مرةً واحدة .. كنت أنتفض من فراشي لأتأكد من وجودها في فراشها وخلودها للنوم مصارعًا تخيلاتِ ذهني الفظيعة .. ويكأنها غادرتْ المنزل في غفلةٍ مني ووضعَتْ مكانها وسادة كبيرةً تحتَ الملاءة ومثَّلَتْ رأسَها بواسدة أخرى صغيرة، ثم انطلقتْ هاربةً من البيت خوفًا من مصيرها الذي توعدتها به هذه الليلة، وانطلقتُ بخاطري أعدو خلفَها في حالك الظلام وعواء الكلاب وتسكع أبناء وبنات الليل المتربصين لصيد ثمينٍ سمينٍ كهذه التي يمكن اختطافها وتشكيلها بالقوة والقهر على أعمالهم الإجرامية، فوجدتني كلمح من بصر أترك العنان لقدمي نحو غرفتها، فأرتمي على سريرها وأحتضنها، وأرقد بجانبها جاعلا إياها ناحية الحائط لأشعر بها إذا ما تحركت وأرادت الصحيان، فلا أعطيها فرصة للهرب، وبتُّ ساهرا أحاول إبعاد تلك التخيلات والتوقعات عن ملاحقتي حتى أذن الفجر وشقشق النهار فقمتُ أصلي .. قبل تلك الليلة بفترة قصيرة صارت غريبةَ الأطوار على غير عادتها .. تحولت عما عودتها عليه من سلوك .. مشاكسات باستمرار .. غضبٌ وصراخ على أتفه الأسباب .. اعتراض دائم .. عدم اكتراث للأوامر .. تكسير للأثاث بقصد وبدون قصد .. تحرجنا بأفعالها أمام الضيوف .. جاوز الأمر ـ فعلا ـ مداه .. كانت أمي تروي عن حالي وأنا صغير وعن هدوئي، وأن أحدا لم يشتك مني أبدا .. كان ينعتني الجميع بـ ( مشمش )، وقبل أن تسألوني .. ؟؟ أنا سألتُهم :ـ لماذا ؟ قالوا لي لأنني كنت هادئا كالقط مشمش ـ ولا تسألوني عن مشمش، فأنا لا أدري شيئا عن هذا القط مشمش أصلا ـ ... وبدأتُ أتساءل وأحلل وأنا المسؤول في مجال تربية النشء، ويتخرج على يدي مئات الطلاب والطالبات سنويًّا في كلية التربية .. كيف سأحل مشكلة ابنتي ذات الخمس سنوات .. أتراني تساهلت أكثر من اللازم معها ودلهتها ؟؛ الأمر الذي أدى إلى بلوغ سلوكها هذا الحد من اللامبالاة والتسيب والعبث .. في حواري معها تلك الليلة أشاحت بوجهها ملوحةً بيدها عندما لم يعجبها كلامي فأسقطت نظارتي عن وجهي مما أخرجني عن شعوري وكدت أطيح برأسها عن جسمها ، ولكنه القدر .. اللللقدر .. انبرت أمها، فنجدتها من بين يدي ..أنا لم أقل لها سوى : أين ( الإسكوتر ) .. كانت تلعب به أمام المنزل وعادت من دونه .. أخذه ابن أحد الجيران منها وهي تخلت عنه له، لقد شاهدتها عبرَ الشرفة ووقفْتُ أراقبُ كيف سيكون رد فعلها ؟ .. تركتْه له .. فقط تركتْه ، وكأنه لا يخصها .. كنت أودُّ لو تُظهر بعضَ الرفض، أو تطلب منه أن يلعب به لبعض الوقت، أو شيئا من هذا القبيل .. كل ذلك لم يحدث .. تركتْهُ ودخلتْ مسرعة للمنزل حتى إنها لم تتحدثْ بالموضوع .. أخذني صراع نفسي داخلي ، فتذكرتُ أنني ـ في صغري ـ أبدا لم أفرط في شيء يخصني، ولم يجرؤ أحد على أخذ لعبي أو طعامي .. كيف ستصبح ابنتي مفرطة في حقها .. أنا لا أريد ذلك .. ارتفع صوتي :ـ أين ( الإسكوتر ) يا بنت ..كيف تتركينه لهذا الولد .. أخِفْتِ منه ؟، أم ماذا ؟ .. لا أحب ابنتي من هذا النوع ... ثم فعلَتْ ما فعلَتْ، ولم تكتف بإسقاط النظارة عن وجهي ـ سواء كان بعمد أو بدون عمد ـ ،حتى التفتَتْ وبسرعةٍ وطَفِقَتْ تصنع ما اعتادت عليه .. ألقت نفسَها على الأرض .. صرخَتْ .. تحاول إلهاءنا دائما بصراخها لنحاول إسكاتها بشتى الصور .. لم أُمَرِّرْ هذه المرة .. :ـ ستسكتين وإلا ضربتُكِ .. ستتألمين .. ( هااا .. هااا ) .. اصمتي ..أقول لك اصمتي .. لم تسكتْ .. لم تهدأ .. زاد الصراخ .. أخذتْ تتقلب على الأرض كملسوعة أو مصروعة .. أما أنا فلم أستسلم .. نعم لم أستسلم .. ثم قلت :ـ أنتِ لستِ ابنتي .. أنا لا أعرفكِ .. سوف لن تبيتين الليلة في البيت سآخذكِ وأرميكِ في (الأحداث ) حيث تُضربين وتهانين وتقاسين كل ألوان العذاب .. ربما تضحكون مني وعلى منظري وأنا أخاطب طفلة في سنها بهذه الطريقة .. أليس كذلك ؟؟! .. لكن هذا ما حدث بالفعل ودعوني أكمل هذه المسرحية .. :ـ سوف تبيتين الليلة عند (البوليس ) مع المجرمين والنشالين ولسوف تشاهدين الويل بعينيك ، وأمسكتُ بيدها الناعمة الصغيرة وجذبتُها بشدة وكنتُ ـ بالطبع ـ لا أنوي ذلك حقًّا، وإنما هو للتهديد فقط وأنا أعلم أنها لا تعرف شيئا لا عن الأحداث ولا عن قسم الشرطة .. العجيبُ فيما حدث أنها هدأتْ لبرهة وبجانبها أختها الكبرى تحتضنها بينما أنا متمادٍ في تهديدي ووعيدي، ثم أخذتَا في البكاء سويًّا والاقتراب من بعضهما وهما تقولان :ـ لا لا .. لا أريد أن أذهب للأحداث .. لا أريد ( البوليس ) .. :ـ لا لا لن تذهب أختي لأي مكان .. لن أعيش بدون أختي .. سوف أموت بدونها .. مَنْ ستلعب معي ؟ .. دعها يا أبي هي ستكون طيعة ولن تخالف أوامرك مرة أخرى .. فقط دع أختي تعش معنا أرجووووك ... كان سيغلبني بكاء مشوب بضحك، أو ربما العكس لست أدري ولا أستطيع وصف حالتي تلك ربما تفهمونها أنتم .. أمْسكتُ عن كليهما لم أضحك ولم أبكِ .. تماسكْتُ لأبْعَدِ الحدود .. قلتُ :ـ ماذا سنفعل مع مثل هذه البنت .. لم تعدْ ترضخُ لأوامرنا، ولا تقبل منا نصيحة .. لم تعد بنتنا .. نعم لم تعد بنتنا.. سوف نطردها من هنا ... :ـ لا لا أرجوكَ يا أبي .. تعجبتُ من رد فعل الكبرى .. رد فعل جديد لم يفرض بروزَه موقفٌ كهذا من قبل .. كانتا دائمًا في نقار وشجار طفوليّ .. الفرق بينهما سنتان، والآن أتفاجأ بهذا التلاحم الأخوي العجيب، استسلام تام من الصغيرة، ودفاع مستميت من الكبرى، بينما وقفَتْ أمُّهما ـ على غير عادتها في مثل هذه المواقف، فهي تعرف أن الأمور ربما تطورت وخرجت عن مسارها معي ـ وقفت تراقب الوضع ثقةً منها في حُسنِ تصرفي مع الوضع ـ هذه المرة ـ رغم تطوره لهذا الحد ... دعوني أهمس في أذنكم :ـ أنا لا أتعامل مع مشاكلي الأسرية بطرق صحيحة، على عكس ما أدرسه للطلاب بالجامعة .. صدقوني ... وأمام خوف الصغرى مما توعدتُها به ، وموقف الكبرى المؤثر، أصررتُ أنا على موقفي :ـ لن تُقيمَ معنا بعد اليوم .. تركْتُ غرفتَهما إلى غرفتي فلحقتني الكبرى وهي تحاول إقناعي بالرجوع عن قراري وتحثُّني على منحها فرصة أخيرة .. جلست بجانبي على السرير تقول :ـ هي ـ والله ـ أختي يا أبي ليستْ كما تقول أنت إنها ليست ابنتك .. شعرها ناعم كشعري .. وعينها بنية كعيني نمرض سويا ونشفى سويا .. :ـ لا ليس هذا دليلا على أنها ابنتي ولا دليل على أنها أختك .. بكَتْ وهي تفكر في دليل جديد، فقالت :ـ أحيانا لا نمرض سويا، أحيانا هي تصاب بالبرد وأنا لا .. ألا يعني هذا أنها أختي ؟ .. :ـ ربما، لكن ينبغي أن نُجْرِي تحليلا لها، ونأخذ عينة من دمها وننخزها بالحقنة .. بينما كانت تقف الصغرى بجوار باب غرفتي تتسمع إلى ما ستؤول إليه المباحثات عنها، وعندما جاءت سيرة الحقنة أخذت تصرخ في وجل وبصوت مبحوح لكثرة بكئها وصراخها تلك الليلة، وظلت واقفة في مكانها هذه المرة لم تتحرك .. قلت لهما بصوت خشن :ـ هيا هيا اذهبا الآن للنوم وغدا سننظر في الأمر .. ذهبتا تلك الليلة للنوم .... ولإنْ سألتني عن حالها الآن وبعد خمسةٍ وعشرين عامًا من هاتيك الليلة العجيبة أخبرْك أنها أصبحت متخصصةً، وتجري الكثير والكثير من الأبحاث عن كيفية حل مشكلات نزلاء ونزيلات
( مصلحة الأحداث )، بل فاقتني أنا شخصيًّا علمًا وخبرةً ،حتى إنها اصطحبتني اليوم في زيارة لمصلحة الأحداث بناءً على طلبٍ مني .. أتراه كان خطأ ما فعلته وينبغي تعليقه على شماعة الأقدار ؟؟!، أم تراني تغلبتُ على عادتي ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــ

محمد محمود شعبان 


التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016