صعد درجات السلم فى خفة ورشاقة إبن العشرينات ، ومشاعر
الفرحة والسعادة تمتزج إمتزاجاً بدماءٍ تجرى دافئةً فى عروقه ، وتفيض بشاشةً
وسروراً غمرا قسمات وجهه.
وصل باب شقته ، وقبل أن يولج مفتاحه فى الباب ، كانت يد
سهير أسبق..فتحت الباب وتلقته بين ذراعيها ، وشفتيها تنثر قبلاتها على تقاطيع وجهه.
أجلسته ملـكاً متوجاً على الأريكة ، ولأول مرةٍ لم يأبه
لأزيزها
المتصاعد ، ركعت قبالة ساقيه وعيناها تفيض فرحاً وشوقاً
، قالت فى عجالة
-- فرًّحنى يا حسن
إنحنى فى ود آخذاً رأسها بين كفيه ، قبّل جبينها فى حنان
وحب...همس
-- السعودية يا سهير
قفزت من موضعها وأفترشت فخذيه ، وأنهمكت تغمر وجهه
بقبلاتها الفرحة...همست
-- إمتى يا حسن ؟
أزاحها جانباً برفق ، ونهض واقفاً وعينيه مصوبتان إلى
الباب..همس مبتسماً
-- يا وليّه...الباب مفتوح
سار بضع خطوات ، أغلقه وأستدار عائداً...أردف
-- بمجرد ما تخلص الأوراق
قاطعته فلم يشفى رده غليلها
-- يعنى إمتى يا حبيبى ؟
جلس بجوارها فى هدوء حتى لا يتصاعد أزيز الأريكة...قال
ويده تربت على فخذها
-- إسبوعين على أقصى تقدير يا حبيبتى
أنهت سهير طهى الطعام ، نادت على سارة لتساعدها فى إعداد
مائدة الطعام ، داعبتها سارة متسائلة بنبرةٍ لا تخلو من سخرية
-- هو بابا ورث ...واللا أيه الحكاية؟
صمتت لحظة منهمكة فى إغتراف الطعام....أردفت
-- الأسبوع اللى فات كبده...والنهارده فراخ
قاطعتها أمها دون أن تلتفت إليها ، إلا أن فرحتها كانت
جلية
فى نبرات صوتها
-- أكتر من الورث يا سارة...مفاجأة يا بت !
أمسكت سارة عن إستكمال ما تقوم به ، وألتفتت إلى أمها
متسائلةً فى لهفة
-- مفاجأة أيه يا ماما ؟
كانت سهير قد فرغت لتوها من إعداد صينية الطعام ، حملتها
بين يديها وأنصرفت مغادرةً المطبخ .
همست لسارة بصوتٍ خفيض...إلتقطته أذنها المرهفة
دلوقتى تعرفى...أصبرى شوية
إجتمعوا كعادتهم متحلقين حول الطبلية الخشبية ، وهمّوا
بتناول طعامهم , إلا أن سارة بادرت متسائلة
-- أيه هى المفاجأة يا ماما ؟
إلتفت حسن إلى سهير والإبتسامة تكسو وجهه
إنتى لحقتى يا سهير ؟ ..طب كنتى أصبرى شوية لحد ما
يبقى
العقد بين إيدينا .
تهلل وجه سارة فرحاً
-- إنت هتسافر يا بابا ؟
ضحكت سهير وقالت وعيناها تفيضان سعادة
-- بابا هيسافر السعودية يا حبيبتى
إتسعت عينى سارة وقد إكتست الدهشة والفرحة ملامح وجهها
-- بجد يابابا ؟
أجابها حسن ويده منشغلة بإغتراف بعضاً من الأرز
-- إن شاء الله يا حبيبتى
إغرورقتا عينى تامر بالدموع التى لم نعرف طريقها إلى
خديه ، وضع لقيمة خبزٍ كانت فى يده ، ونهض واقفاً فى طريقه إلى غرفته .
سأله حسن مستغرباً
-- إنت ما كلتش حاجة يا تامر
تمتم تامر وهو فى طريقه إلى غرفته دون أن يلتفت
-- الحمد لله
بينما تعالى نفير سفينةٍ عملاقة متصاعداً فى إتصال..ثم
ما لبث أن تلاشى.
إستيقظت سهير مبكراً ، فتحت نافذة غرفتها فتسلل ضوء
الشمس ينشر ضياؤه فى الغرفة .
ألقت نظرة على الشارع الطويل ، تمهّلت عيناها...محل عم
دياب مازال مغلقا.
نفير سفينةٍ أخرى يتصاعد متقطعاً ، إيذاناً بدخولها مياه
القناة فى طريقها إلى ميناء بورسعيد ومنه إلى مياه البحر المتوسط .
عادت ببصرها وعينيها تتجه جنوباً ، إستقرت إلى حيث ينتهى
بصرها فى الأفق البعيد , همهمت ...
" هناك هيكون حسن ..ومن هناك هيجيب لنا الخير كله
"...
غزا حدقتيها فجأةً عم دياب واقفاً أمام محله ،وصبيه يشرع
فى رفع بابه الصغير ، إستدارت على عجل ، وأزاحت ملاءةً بيضاء إتخذها حسن غطاءًا
له....نغزته فى كتفه العارى بلطف قائلةً
-- قوم يا راجل ...عم دياب فتح المحل .
نهض متثاقلاً ، فرك عينيه بيديه
-- هى الساعة كام دلوقتى ؟
أجابته وهى تلملم الملاءة وتطبقها بإحكام
-- داخلة على تسعة
صمتت لحظات ثم أردفت
على ما تغسل وشك وتفطر وتلبس هدومك ، يكون عم دياب
على وشك الإنتهاء من شيشة الإصطباحة...قوم ياللا
بلاش كسل
إنصرفت إلى مطبخها لتجهز له إفطاراً ، وكوباً من الشاى
الساخن .
انتهى حسن من إرتداء ملابسه ، وسهير مستلقية على جانبها
الأيمن فوق سريرها تراقبه بإهتمام ، إلتفت إليها وأنحنى قليلاً ، وقّبًّلها فى
جبينها وهو يتمتم فى حنوٍ بالغ
-- إدعي لى يا حبيبتى
إعتدلت جالسةً القرفصاء ورفعت يديها إلى أعلى
-- ربنا يفتحها فى وشك يا حسن يا أبن تفيدة
ثم ترجّلت من فوق سريرها ، وتأبطت ذراعه وسارت معه حتى
باب الشقة ..فتح الباب مغادراً ، إلا إنها أستوقفته متسائلة
-- هو العقد بكام يا حسن ؟
أجابها وهو يهم بالنزول
-- والله ما أعرف يا حبيبتى
قالت فى رجاء
-- طب عشان خاطرى...إبقى أسأل عم دياب
تمتم وهو يتوارى هابطاً درجات السلم
-- حاضر يا حبيبتى
أغلقت الباب فى هدوء،وذهبت إلى نافذة غرفتها لتتابع
بعينيها ما يدور بين الرجلين .
جذب حسن كعادته كرسياً خشبياً من داخل المحل، وجلس على
مقربة من عم دياب، ناول المظروف الذى يحمله للرجل العجوز وقال
-- الباسبور وتصريح العمل أهم يا عم دياب
أرخى الرجل لّى الشيشة جانباً ، وتناول المظروف وفتحه ،
إطّلع على ما بداخله ثم أغلقه ووضعه على فخذه ، وأمسك بلّى الشيشة وأخذ نفساً
عميقاً ثم أخرجه بإرتياح وتمتم
-- تمام....تمام
ثم إلتفت إلى حسن وقال
-- شوف يا أبنى...اللى أوّله شرط..آخره أيه ؟
أجابه من فوره
-- آخره نور يا حاج
-- عليك نور
سحب الرجل نفساً طويلاً من مبسم الشيشة ، ثم ما لبث أن
أطلق زفيره دخاناً متصاعداً....وقال
-- تجهيز الأوراق إتكلّف خمسميت ريال ...والراجل اللى جاب العقد
حسابه ألفين ريال
طأطأ حسن رأسه فى يأس ، لقد إنهارت فجأة كل أحلامه ،
تمتم والدموع تغالب عينيه
-- منين يا حاج؟؟
ربت العجوز على فخذه ، وقال فى عطفٍ وحنان
-- ما تحملشى هم يا حسن يا أبنى
سكت لثوانٍ ثم أردف
-- الخمسماية بتوع الأوراق أنا دفعتهم...وإتفقت لك مع الراجل إنه
ياخد خمسماية كل شهر ...يعنى الألفين على أربع مرات.
صمت مرة أخرى وألتفت إلى حسن ثم أردف
-- إستبينا يا حسن ؟
إنحنى حسن بعفوية ، وقبًّل يد العجوز والدموع قد أغرقت
مآقيه
-- القول قولك يا عم دياب
سحب العجوز يده بلطف ، وتنهد بإرتياح ، وضع لّى الشيشة
جانباً ونهض واقفاً ، وتبعه حسن....همهم الرجل
-- على بركة الله
ثم ألتفت منادياً صبيه طالباً منه إدخال الكرسيين
والشيشة إلى داخل المحل ، ثم تأبط ذراع حسن ، ومضيا يذرعان الشارع الطويل.
إستأذنت سارة أبيها ، وأنزوت فى غرفتها لتقرأ قليلاً قبل
أن تخلد للنوم إستعداداً ليومٍ دراسىٍ آخر ، بينما كان تامر قد سبقها بدقائق ،
وغط فى نومٍ عميق.
جالسان فى إسترخاء يتابعان أحداث المسلسل اليومى بشغف .
تترات النهاية تتتابع على الشاشة ، أغلقت سهير التلفاز ، إلتفت
إليها حسن بعدما إعتدل جالسا ، قال فى تؤدة وهدوء
زى ما قلت لك...خمسماية لعم دياب...وخمسماية تانية
برضه
لعم دياب عشان يّديها للراجل ، وتغيًّرى من الصرافة على
قدر إحتياجاتك ، والباقى تشيليه
صمت لحظات كمن يتذكّر شيئاً فاته أن يذكره....أردف
آه...ما تنسيش تدى الست جمالات المائة جنيه اللى
إستلفناهم منها..الشهر اللى بعده واللى بعده واللى بعده تدى فى كل مرة عم دياب
خمسميت ريال ويتبقى معاكى ف كل مرة ألف وخمسميت ريال....
إصرفى بحرص وبلاش فشخرة.
أدنت يده من شفتيها ، وقبّلتها مرةً أخرى بإشتياقٍ بعث
فى جسده دفأً يخشى عواقبه.
همست وأمطار الرغبة تغرق كلماتها
-- إنت تأمر يا سيد الرجالة
نظر فى عينيها متأملا...طوفان الرغبة يتدفق أنهاراً من
حدقتيها.
نهضت فى ليونة ، كان كل جزء من جسدها البض يتحرك منفصلا
عن باقى أجزاء جسدها الممشوق.
أخذت بيده بين يديها حتى إستقام واقفاً ، ألصقت كامل
الجزء الخلفى من جسدها بجسده ، وأمالت رأسها إلى الخلف حتى إستقر على كتفه الأيسر
همست وهى تواصل قيادته إلى غرفة نومهما
--الليلادى هتعوضنى عن كل الليالى اللى فاتت
كان يدرك جيداً أن لا حجة لديه ، فغيابه سيستمر
لعام..نعم سوف يستريح من شهوتها التى لا تهدأ...ولكن ما عساه يفعل؟...يجب أن
يعوضها الآن عمّا مضى وما هو آت.
عادت سارة و تامر من المدرسة مسرعين بغية اللحاق بأبيهما
قبيل سفره لتوديعه ، إندفعا إلى الداخل يتسابقان ، وجداه ما زال فى غرفة نومه
يستكمل تجهيز حقيبة سفره ، إحتضناه معاً
حانت ساعة الرحيل ، وقف خارج الباب قدماه تأبيا
النزول ، نظر إلى زوجته وأبنته وأبنه مودعاً ، والدموع تترقرق فى عينيه ,
إندفع تامر كالبرق مرتمياً بين ذراعى والده ، والدموع تنهمر أمطاراً على خديه ،
تمتم بكلماتٍ إختلطت حروفها بدموعه
-- بلاش تسافر يا بابا...بلاش تسافر
ربت حسن على رأسه بحنوٍ شديد ، والدموع تنساب على خديه
-- أيه يا تامر ؟...خلّيك راجل
إنفرج باب الشقة المجاورة ، وأطلّت الست جمالات برأسها
ونصف جسدها العلوى ولسانها يلهج بالدعاء لحسن.. ثم وجهت إليه حديثها
-- أمانة يا سى حسن تدعى لى فى الحرم
أجابها وقد بدأ يخطو أولى خطواته هابطاً الدرج
من عينيا يا ست جمالات -
ثوانٍ وتوارى عن أنظارهم ، أغلقوا الباب وأندفع ثلاثتهم
إلى النافذة متطلّعين إلى حسن ومعه عم دياب يقطعان الشارع...إلى أن غابا عن
أنظارهم فى طريقهما إلى الميناء ، حيث ترسو السفينة التى ستقله إلى ميناء جدة ،
ومنها يستقل أوتوبيساً يذهب به إلى الظهران ..مدينة عمله المنتظر وموطن إقامته الجديد.
إحتضنه عم دياب بأبوة حانية ، شد حسن على يده ممتناً
وشاكراً له صنيعه ، ومؤكداً له أنه أكد على زوجته بإيصال المبالغ المالية كما سبق
وأتفقوا ، كما أوصاها باللجوء إليه فى حال أى طارئ يستجد عليهم .
ربت عم دياب على كتفه قائلا
-- لاتشغل بالك ولادك فى عينيا ياحسن...... خد بالك إنت من
نفسك... ومن شغلك.
قاطعهما نفير السفينة المتصاعد إيذاناً ببدء أولى مراحل
الإبحار .
إلتقط حسن حقيبته فى خفة ، وأنطلق عابراً الكوبرى الذى
يصل بين جسم السفينة ورصيف الميناء...دقائق وغاب داخلها ، دقائق أخرى تبعتها
ليتصاعد نفير السفينة ، معلناً مغادرتها للرصيف البحرى فى طريقها إلى ميناء جدة .
كانت سهير لا تزال واقفةً فى نافذة غرفتها ، إستطاعت
بسهولة أن تميز نفير السفينة التى تقل زوجها عن باقى النفير .
وقف حسن كما وقف الكثير من الركاب ، ممسكاً بالسور
الحديدى فى أعلى سطح السفينة ، يتطلّع إلى المدينة التى تتضاءل شيئاً فشيئاً
إلى أن تلاشت، ولم يعد يرى من حوله سوى ماء ، ومن فوقه ...سماء.
..............
محمد البنا