مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

(( تصريحُ دفنٍ )) ...... قصة لمحمد شعبان






يسعى إلى المقابر لزيارة قبر والده كما اعتاد منذ فترة وجيزة ، مع أن والده متوفى من سنين .. قفزت إلى خاطره ـ أثناء سيره ـ بعض مواقف له مع هذا الطالب المميز ( علي ) والذي يشغل بعقله وقلبه مكانا دون غيره من المتعلمين الذين يدرس لهم ، ويعتبرمجرد الجلوس إليه والشرح له وتحفيظه متعة له ـ كمعلم ـ لا تدانيها أسمى أنواع المتع الدنوية ...
يمشي بين القبور يدقق النظر في شواهدها هذا كُتبَ عليه
" الحاج / عبد القادر .. انتقل إلى رحمة ربه في 4/ 5 / 1986" ، وهذا مكتوب عليه " المرحومة / رَوحِيَّة ...توفيت ـ رحمها اللـه ـ في 3 / 12 / 1990 " ، أما هذا فكتب عليه " هنا يرقد جثمان المغفور له / زاهي .. يوم 4 / 8 / 2011 "..
يحب دائما الحضور للمقابر في هذا الوقت من اليوم بعد صلاة العصر حيث تودع الشمس نهار الدنيا مؤذنة برحيله ونهايته ... يتبعه بعض القراء يسألون بإلحاح : (تحتاج قارئا يا أستاذ )؟ ، وبعض المتسولين الذين يتبعون الزائرين إلى قبور ذويهم يتكففونهم بإلحاح ، فيعطيهم هذا مالا ويعطيهم ذاك طعاما وهم يتلقفون تلك الهبات والصدقات تلقف المحروم على قلة ما يعطى لهم ، ويكدسونها في أكياسهم المتسخة ، التي تختلط فيها الفاكهة المتسخة بالفطائر ، وخبز ملفوف بالأرز لتعجن تلك المكونات سويا مع ضغط الكيس في منظر تأنفه العين وتلفظه النفس ، أغلبهم في عمر الزهور صغار لا تتجاوز أعمارهم العاشرة ،بينهم بعض الشباب والبنات ، أما هو فيسرع بإعطائهم النقود ليتخلص من ملاحقتهم إياه ، حتى إذا ما وصل قبر والده لم يبق منهم أحد ، فهو لا تعجبه قراءة هؤلاء القراء ، فهم لا يلتزمون الأحكام ، قراءتهم سريعة خالية من الخشوع تشبه قراءة من لسعه عقرب لا يُفهم من قراءته غير " بسم الله الرحمن الرحيم " ، و " صدق الله العظيم " يمد بهما صوته لا تجاوزان حنجرته ... ثم هو يحب أن يقرأ القرآن بنفسه ويؤنس والده في قبره بصوته ، ويقول دائما : أحسب أن والدي يفخر بي بين أهل القبور وأنا أقرأ عليهم القرآن بصوتي ، لذلك لا يحب أن يقرأ على قبر والده أحد غيره .
لمَّا يصل بعد لقبر والده ، وصورة( علي ) لا تفارق ذهنه ..( علي ) يملك عليه تفكيره الآن ، هيئته وهو يجلس في خشوع بين يديه يستمع إلى آيات القرآن ويرددها كما سمعها .. لا يتحدث قبل أن يرفع يده مستأذنا ، فإن أذن له وإلا ظل صامتا متأدبا .. يصدِّر حديثه دائما بقوله :ـ حضرتك يا أستاذ .. ويختمه بـ :ـ أشكرك . حتى إذا ما انتهت الحصة لا ينصرف دون أن يؤذن له .. طالب مثالي بكل ما تعنيه الكلمة ، أعاد إلى ذهنه معاني الالتزام التليدة ، والمفتقدة بين المتعلمين تلك الأيام .
ويتذكرعندما حضر ( علي ) أول مرة راجيا أن يحفظ القرآن بالتفسير على يديه ، وقد عرف بالمنطقة الشعبية التي يعيش بها بمهارته في تحفيظ القرآن وتدريس اللغة العربية ، تعجب له ولطلبه رغم أنه ليس أزهريا ، وليس مجبرا على ذلك .. سأله : ولمَ ؟ ، ولمَ تريد أن تحفظ القرآن ، وبالتفسير ؟ فقال ( علي ) لحاجة في نفسي يا أستاذ .. احترمه وقدر رغبته ، وأما( علي ) فقد التزم في الحفظ ، ساعده في ذلك حرصه واهتمامه وملكة لم يصادف مثلها في حياته العملية في مجال التدريس والتحفيظ .. لقد أتقن ( علي ) الحفظ بالأحكام بقدرة فائقة على التجويد بما أُنعم عليه من نعمة الصوت الجميل ، يقرأ كأنما ينبعث من بين شفتيه لحن ملائكي ينساب من عالم خاص .. يقرأ القرآن بقلبه قبل لسانه .. لكم أحبَّ الاستماع إلى آي الذكر الحكيم من ( علي) يقول له : اقرأ يا ( علي ) .. حتى إذا ما انتهى يقول له : اقرأ يا (علي ) لا تتوقف .. هو بحق التلميذ التي تفوق على أستاذه .
ولكم تساءل ، وما زال يلح عليه السؤال : لِمَ كل هذا الاهتمام بالقرآن وحفظه وتفسيره ؟ .. في زمن طغت فيه محفوظات أخرى لا تمت لعادات أو أصول أو دين ،أغان مبتزلة ، مصحوبة بمناظر مقززة ، وألفاظ وتعبيرات تؤذي الأحاسيس ، حتى لكأنها مزبلة ، وربما لو أن (عليا ) هذا اتجه بصوته الرخيم العذب المؤثر إلى إحدى مسابقات الغناء التي لا تخلو منها الفضائيات لحصل على أعلى الدرجات ، ولجذب إليه قلوب الجماهير وتصويتهم .. لقد أدَّى أمامه دورا قديما لـ ( عبد الوهاب) بطريقة مبهرة وبأسلوب مميز :ـ الله الله عليك يا ( علي ) الله عليك يا فنان .
ورغم أن لـ ( علي ) والدين كادحين .. أبا عاملا ( أرزقي ) ، وأمًّا تدور تخدم بالبيوت أثقل الزمان كهولهما ببنتين وابنين ( علي ) أكبرهم .. والدان أقصى أمانيهم اليومية الرتيبة أن يعودا لأولادهم بقوت الليلة لا أكثر ، فينامان ملء عيونهم .. لا أطماع لهما بتلك الحياة ، بل لاتسمح لهم الظروف أصلا بأن تكون لهم أطماع ، أو بالأحرى طموح .. تشهد لهما تلك الغرفة الضيقة فوق سطح إحدى عمائر العشوايات المسقوفة بالبوص والمُشمَّع الرقيق ، والمفروشة بالحصير الخشن ، تأن من الحر صيفا ، ويغرقها المطر شتاء .. لكم أعجزهما ضيق ذات اليد في تحقيق آمال هي في عيون كثير من الناس بسيطة جدا وسهلة المنال .. وكان آخر ما خاب من تلك الآمال ـ وما أكثر الخيبات ـ هي أن يكمل ( علي ) تعليمه ، حتى اكتفى المسكين بالشهادة الإعدادية وانغمس في مجال العمل ليساعد أبويه الذين أنهكهما دولاب الحياة القاصم ...
ثم أين متخصصوا التنمية البشرية من تلك الطاقة الكامنة في هذا الصغير الذي أتم دراسته ونال أعلى الدرجات في كل المواد ، الأمر الذي عجز عنه كثير من أترابه ممن يسكنون في شقق واسعة وربما في (فلل) وقصور ، ومهيأ لهم كل وسائل الراحة والتفوق ، غير أن فضل الله يهبه من يشاء بغير حساب ... لن يستطيع ( علي ) أن يكمل دراسته لأن والديه لا يستطيعان أن يدفعا له مصروفات المدرسة ؟ .. فقط مصروفات المدرسة ، فهو لا يحتاج لدروس خاصة .. لم يذهب قط لدرس خاص.. أين هؤلاء المتخصصون الآن لينقذوا تلك الموهبة الجديدة قبل أن توأد كغيرها من ملايين المواهب الموءودة تحت أطباق النسيان والتجاهل ..
ثم إن لله في الأمر لكرامة بيِّنة .. يجمع الفتى ( علي ) بين العمل والحفظ .. الشيء الذي لم يقو عليه كثير من أترابه الذين يركنون إلى رواتب آبائهم وأمهاتهم ، ويعتمدون على مصروف مالي يعينهم على بطالة وفراغ يورث الحسرة على جيل يستعذب الاعتماد والكسل والتواكل ... أما ( علي ) فقد حضرقبل ستة أشهر تسبقه رغبة قوية ، يشع من عينيه نورأمل يكبر سنه بمراحل ويشرق به درب حياته ، تلازمه خفة ظل ، وابتسامة مشرقة دائمة ، هذا كل ما يملكه وحسب من أسلحة في مواجهة معركته الطاحنة مع الأيام ، رغم نحافة جسمه ، وتوسط قامته ، وحاله الشاحبة .
:ـ أستاذي
:ـ نعم يا ( علي ).
:ـ أود أن أبدأ الحفظ بسورة ( يس ) ، وشهريتك محفوظة يا أستاذي
:ـ لا تشغل بالك يا ( علي ) بالشهرية سأحفظك القرآن دون مقابل .
وأمام إصرار ( علي ) وافق أن يأخذ شهرية رمزية بضع جنيهات .. حفظ ( علي ) سورة يس في أقل من أسبوع ، استمر في الحضور بعد ذلك، ثم تغيب ثلاثة أسابيع ، عاد بعدهن بشهية أكبر ورغبة نهمة .. تتابعت الشهور ، لم ينظر أبدا في الشهرية ، كان (علي ) يضعها أمامه على المنضدة ويمضي ، لكنه كان يلاحظ أن النقود يزيد حجمها شهرا بعد شهر ، لم يحاول مرة أن يسأله عن عمله أومن أين يجني تلك الجنيهات والتي دائما ما تكون ( فكة ) ، وعلى رقة حال ( علي ) إلا أن الصغير المسكين يملك نفسا عزيزة ، فكثيرا ما رد يد الصدقة قائلا بعزة نفس وإباء : (مستورة والحمد لله يا أستاذ ) .
أيًّاما كان يعمل ( علي ) فلا شك أن هذا العمل يَقْبُر طاقة هائلة يملكها شاب ذو آمال عريضة تحول دونها حاله الرقيقة ، وما أكثر هاتيك المقابر هذه الأيام ... ( حسام ) أيضا كان أحد تلامذته الأفذاذ درس التجارة ويعمل الآن على خط إنتاج ( الاسناكس ) بأحد المصانع ... ( هشام ) كذلك فَنِيَ رَدَحٌ من عمره في دراسة الحقوق ، يعمل الآن مُحصِّلا بإحدى الشركات ... ( عادل ) يعمل فـَرَّاشًا بإحدى المدارس الحكومية علما بأنه حاصل على الماجستير ، وتقدم للوظيفة بالشهادة الإعدادية .
هؤلاء شباب أقيمت لهم مآتم قبلك يا ( علي ) ، فهل هذا ما ستؤول إليه حالك ... لم يعد يرى تلك الطاقات الشبابية سوى فرقعات ( بومب العيد ) تحدث ضحة مؤقتة ، ثم تتلاشى فيما وراء النسيان ، ولم يعد يرى نفسه إلا( مُوَرِّد أنفار وعمال ) للمصانع والشركات .. أما كان يكفي لهؤلاء أن يحصلوا على شهادة محو الأمية بدلا من تعب القلب وتضييع الوقت ،وما يعطى للمتعلمين من شهادة إثبات نجاح أهي شهادة ميلاد لأفراد يكونون في خدمة مجتمعهم أم أنها تصريح دفن يعطى لكل واحد منهم ؟! وما الذي سيحققه لك حفظ القرآن أيها الطائر الصداح في عالم الأحلام ؟ ، وقد أتممت حفظه في ستة أشهر بالتمام والكمال ، لم تتأخر يوما في الحضور ، ولم تقصر في واجبات .... يتعجب دائما من رغبة ( علي ) النارية ، وإرادته الفولاذية ، وهو يقول :
:ـ زدني يا أستاذي .. اتل عليَّ الربع التالي وسأحفظ كليهما الحصة القادمة .
:ـ لا تشق على نفسك يا علي يكفيك هذا .
ويتعجب عندما يحضر ( علي ) في الحصة التالية وقد حفظ أربعة أرباع لا ربعا واحدا .
:ـ ويل أمي ماذا تريد مني أيها الذاكرة الحاسوبية الفائقة .. أما آن للأيام أن تفك شفرتك أيها اللغز الغامض ؟ .. لماذا لا تكمل دراستك بالثانوية ؟، مستواك يؤهلك لإحدى كليات القمة ، لماذا لا تقدم أوراقك لمعهد القراءات سيكون ذلك أنسب لوقتك ودخلك ... لا تتنازل يا (علي ) ، أنتظر منك الكثير .. طر بمواهبك فوق الأسوار والسدود ، و( علي ) يفرك وجهه متنهدا غير مجيب عن كل تلك الأسئلة ، يهرب بعينيه الكسيرتين المهزومتين في أرضية الغرفة وكأنه يبحث لنفسه عن شق يأوي إليه كما تأوي الحشرات إلى شقوقها يقول : ما باليد حيلة.
ما زال يحث الخطى بين القبور يتمتم ببعض الأذكار والدعوات يقترب من قبر والده ،يقف في خشوع .. :ـ السلام عليكم دار قوم مؤمنين .. يقترب منه أحدهم والسيجارة في يده .. قامة فتية تنم عن صحة وعافية وراحة ، نظارة سوداء ، ساعة ذهبية ، بنطال ( جنز ) و ( تيشيرت ) ضيقان، شعر طويل ينساب على قفاه العريض ، سلسلة فضية حول رقبته ، ( حظاظة ) في معصمه .. راعه المنظر خاصة وهو يقترب منه ، لكن علَّه أتى لزيارة أحد القبور .. لا إنه يقصده :ـ تُرى ماذا يريد ؟
:ـ أقرأ لك يس يا ( باشمهندس ) ؟
:ـ شكرا لك لقد قرأنا ، والحمد لله
ضحك في نفسه ، ثم أعطاه جنيها في يده .. أخذ الفتيُّ الجنيه بيسراه .. نظر فيه يقلبه بين أصابعه .. أخذ نفسا عميقا من سيجارته ، فنفخه في الهواء، ومضى يبحث عن قبر آخر .
الليل يدهم المكان ، وأعمدة الإنارة يتسلل ضوؤها الخافت بين طرقات القبور الضيقة .. التفت نحو قبر والده داعيا و مودعا .. وَقـْعُ أقدام يقترب من خلفه .. يبدو أن أحدهم جاء ليأخذ صدقة : ـ أقرأ لك يس يا أستاذ .. يقطع الدعاء ويلتف بسرعة نحو الصوت ليشكره ويعطيه الجنيه .. يجده مختلفا هذه المرة بلا سيجارة ، أو سلسلة ، أو .... هذه المرة كان (عليًّا ) بشحمه ولحمه .
==========
 محمد شعبان


التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016