مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الشياطين ترقص فرحا ..الحلقة الثانية بقلم الأديب / محمد البنا



 للشياطين


الفصـــــــــــل الثـــــــــــانى

طرقاتٌ متسارعة على الباب...نهضت سهير فى تثاقل تفرك عينيها ، لقد أخذتها غفوة..صاحت وهى فى طريقها إلى الباب
_ حاضر يا زفت إنت وهى
فتحت الباب ، إندفع تامر مهرولاً إلى الحمام ، بينما دخلت سارة خلفه وأغلقت باب الشقة...نزعت حقيبة المدرسة من على كتفها ، وألقت بها بجوار الأريكة ، جلست فى إسترخاء بجانب أمها التى كانت قد سبقتها إلى الجلوس...تمتمت متسائلة
-- الغدا أيه النهارده ؟
ألتفتت ناحية أمها تنتظر الإجابة ، أجابتها أمها دون أن تلتفت إليها  ،ويدها منشغلة بالتنقل بين قنوات التلفاز
-- بصارة
أطلقت سارة زفرة تأفف، وأشاحت بوجهها بعيداً عن أمها ، وأطرقت صامتة ..ثم ما لبثت أن نهضت سائرة إلى غرفتها ، وقد إلتقطت الحقيبة بطريقة عنيفة...تمتمت ساخرة
-- بصارة...عدس...عدس..بصارة...مفيش مرة لحمة
رمقتها أمها فى لامبالاة لثوانٍ ، ثم عادت تتابع شاشة التلفاز ولسان حالها يهمس بداخلها.".بكره تزهقى من اللحمة والفراخ يا بنت حسن"
تذكرت زوجها وعم دياب ، وهما يمضيان فى الشارع الطويل ، تنبهت على صوت تامر ، تفاجأت به واقفاً أمامها متسائلا
-- الغدا أيه النهارده يا ماما؟
دفعته بلطفٍ فى صدره ونهضت واقفة، وأتجهت إلى المطبخ ، إلتفتت إليه
والإبتسامة تكسو ملامح وجهه
-- إسأل أختك
دقاتٌ أخرى على باب الشقة ، ولكنها فى هذه المرة دقاتٌ هادئة ، جاء صوتها مدوياً من خلف جدران المطبخ
-- شوف مين على الباب يا تامر
كان تامر قد سبق صياحها وفتح الباب...ناوله أبوه كيس برتقال، ودلف داخلاً تاركاً الباب مفتوحاً ، أغلقه تامر وأنطلق حاملاً كيس البرتقال بين يديه إلى حيث كانت أمه.
جلس حسن على الأريكة التى علا أزيزها كالمعتاد مرحباً بقدومه...وضع كيسين آخريين على المنضدة بجوار الريموت كنترول ، أحدهما بداخله نوعٌ أخر من البرتقال والآخر بداخله موز ، ولفافة ورقية صغيرة الحجم
عاد تامر مسرعاً ، وجلس على الأريكة ملاصقاً لوالده الذى بادر بضمه إلى صدره فى حنان ، ونادى حسن بصوتٍ ممزوجاً بفرحة لا تخطئها أذنُ سامع
-- سهير....تعالى يا حبيبتى
جاءته ويداها قد إتخذت طرف جلبابها بديلاً للمنشفة
-- أيوه يا حسن...فيه أيه ؟
أشار لها بعينيه إلى اللفافة الورقية ، رفعتها بيدها وقبل أن تفتحها لترى ما بداخلها ، كانت رائحتها قد سبقتها...صاحت فرحة
n              اللحمة جت يا سارة
إندفعت سارة كالبرق خارجةً من غرفتها ، وملامح وجهها تتهلل فرحاً
-- بتتكلمى جد يا ماما؟؟
أومأت أمها برأسها إيجاباً ، وهى ترفع اللفافة فى مستوى عينى إبنتها
-- كبده!!...شمًى
إجتمعوا متحلقين حول الطبلية الخشبية فى منتصف الصالة ، ورائحة الكبد المطبوخ تعبق أجواء الصالة ، وتتجاوزها لتُعلم الجيران بما أُعدّ داخل الشقة من طعامٍ شهى.
إنكب تامر يأكل بنهم ، بينما كانت سارة رغم فرحتها الشديدة بوجود طبقاً شهياً آخر مجاوراً للبصارة،إلا إنها كانت تمضغ قطعة الكبد ببطءٍ شديد...تساؤلٍ وحيد بسط أجنحته على سماء تفكيرها ، وهى تطيل النظر إلى قطع الكبد المتراصة فى الطبق العريض...." ياترى متى أراك مرة أخرى؟؟"..غافلت أذنيها همسات أمها ، وهى تضع قطعة كبد فى فم أبيها
-- كُل دى يا حبيبى علشان تقدر تعوض ليلة إمبارح
إبتسمت فى خبث ، تذكرت ليلة الأمس عندما ألصقت أذنها بالحائط الفاصل بين غرفتها وغرفة أمها...لقد إستطاعت أذنها ببراعة أن تُميز بين نغمات الموسيقى وتأوهات أمها...ثم ما لبثت أن تلاشت التأوهات ,وظل صوت الموسيقى الراقصة مسموعاً...دقائق مضت...أرهفت السمع...كان كل شئ هادئاً...سكون مطبق...تخلله زفراتٌ عميقة مجهدة , تيقنت ذكورية المنبع ، ثم ما لبثت وأن تلاشت أيضاً ، وساد المكان صمتٌ مطبق..جلست القرفصاء على سريرها الصغير ، تحسست بيديها أشياء
فى جسدها قد نمت فى تناسق مذهل ، بينما رعشةٌ خفيفة تسللت ببطء لتعبث فى حناياها.
تمنت أن تكون فى مكان أمها وتتأوه مثلها.
أفاقت من شرودها وأبيها يخاطبها فى حنان متسائلاً فى إستغراب
-- إنتى ما بتكليش ليه يا سارة ؟
نظرت إليه مشدوهة ولم ترد ، ثم ما لبثت أن إنكبت تأكل فى نهم.
إرتدى ملابسه على عجل ، تفاجأت به سهير ماراً من أمامها مجتازاً الصالة فى طريقه إلى باب الشقة...إبتدرته قائلة
-- على فين يا حسن؟
رد عليها دون أن يلتفت أو يتوقف ، ويده تسحب مزلاج الباب
-- نازل القهوة...ساعة زمن وراجع
أغلق الباب خلفه ، وأنطلق هابطاً درجات السلم
نهضت سهير فى تثاقل ، وأحكمت إغلاق باب الشقة وعادت إلى
مجلسها تنمق حاجبيها ، ناظرةً فى مرآةٍ صغيرة قبضت عليها بإحكام
فى باطن كفها اليسرى.
جذب حسن كرسياً من داخل المقهى ، وأنضم إلى أقرانه سيد وشلبى..زميليه فى المدرسة الميكانيكية...أنهوا دراستهم معاً ، سعيا
وراء وظيفةٍ حكومية ، ونالا ما أرادا ، أما هو فآثر الأعمال الحرة ،
ولم تجدى محاولتهما المتكررة معه لإثنائه عن رغبته.
نظر إليهما بحسد ، لا مشاكل يُعانيان منها ، كل ليلة يجلسان على
المقهى ويدخنان الشيشة ، ويأتى آخر الشهر ليدسّ كل واحدٍ منهما مرتبه داخل جيبه .
أمعن النظر فى وجهيهما ، علامات الشيب لم تجد طريقها إليهما بعد , بينما هو قد غزته علامات الشيخوخة بإقتدار...شعر رأسه تساقط ، وما تبقى منه غزاه الشيب ، فأكتسى لوناً فضيا ، وملأت التجاعيد وجهه
وهو بالكاد لم يتجاوز الأربعين عاماً إلا بقليل....بادره شلبى
-- مالك يا حسن ؟...سرحان فى أيه؟
إبتسم حسن إبتسامة شاحبة وهمهم
-- مفيش...أنا معاكم
إلتفت إليه سيد متحدثاً بنبرةٍ حانية
-- لا يا حسن دى مش عادتك
طفق حسن يروى لهما ، ما يكابده من معاناة ومشقة فى العثور على عملٍ دائم ، إلتفت إليه شلبى وقد أبعد لّى الشيشة عن فمه ، وقال فى سخرية
-- إنت طول عمرك راكب راسك
سكت هنيهة ثم أردف مؤنبا
-- ياما قلنا لك...إن فاتك الميرى..إتمرغ فى ترابه..وإنت فضّلت تبقى على راحتك...وآدى النتيجة.. لاطولت بلح الشام ولا عنب اليمن
نظر سيد إليه معاتبا ، وضع لّى الشيشة جانباً ،وأنحنى بلطف مقترباً من حسن ، وهمس قائلا
-- محتاج فلوس يا حسن ؟..أؤمر يا حسن إنت أخويا
دمعتان تحجرتا فى مآقيهما تأبيا أن تنحدرا ، ربت حسن على فخذه ممتنا
-- أنا عارف يا سيد...القلوب عند بعضها...مستورة الحمدلله
سكت برهة ثم ما لبث أن أردف
-- ما أخبيش عليك...عم دياب إدّانى مائة جنيه
قاطعه شلبى مستنكراً فى دهشة
-- عم دياب!!...إنت ناوى تسافر يا حسن؟
أطرق حسن رأسه ناظراً إلى الأرض ، وهمهم بصوتٍ مسموع
-- مفيش قدامى غير الطريق ده...خلاص زهقت من الفقر...البلد دى بتدى الغنى وتحرم الفقير
أمسك سيد بلًى الشيشة...أطبق بشفتيه على مبسمه المذهب...ثوانٍ وأطلق دفعات متتالية من حلقات الدخان الأبيض خارج فمه ، لتنتشر فى الفضاء الفسيح...أتبعها متسائلا
-- طب والعيال يا حسن؟؟
أردف مستدركا
-- سارة كبرت وفى السن دى ضرورى تكون جنبها يا حسن
شرد حسن للحظات...تذكّر سارة والكتاب الذى كانت تضمه إلى صدرها وهى نائمة...تمتم فى هدوء ويأس من لا حيلة له
-- ربنا موجود...وأمها آهى جنبها
سكت قليلاً ثم إستدرك قائلا
-- أنا معاك...صحيح البنت كبرت...يومين وتقول يا جواز...أجهّزها منين يا سيد؟؟
أطرق صامتاً وآثر زميليه الصمت...كان سفره ضرورةً لا مفر منها , ورغم مساوئه العديدة ، إلا أن له مزايا عديدة أيضا...أهمها المال .
أفاق حسن من شروده...أخرجه من صمته صوت صبى المقهى وهو يسأله
-- تشرب أيه يا أستاذ؟؟
ولم ينتظر رداً ، وإنما إنشغل بتبديل حجر الشيشة ، وما إن إنتهى حتى إلتفت إليه مرةً أخرى، فأجابه حسن فى هدوء
-- قهوة سادة
إنطلق إلى الداخل ، وهو يصيح فيما يشبه الغناء
-- وعندك قهوة سادة للباشا
قاربت الساعة الحادية عشر مساءً ، نهضوا ليذهب كلٍ منهم إلى بيته . شد سيد على يد حسن مودعاً وقال له
-- فكّر كويس يا حسن ..أنا عارف إن الموضوع مش سهل..تصبح على خير
بينما أكتفى شلبى بالتلويح له بيده مودعا.
صعد حسن درجات السلم،وعقله عاجز عن التفكير، كأن شللاً أصابه.
أدار مفتاحه فى مكانه بالباب الخشبى ، فتح الباب وأنزلق داخلا ، أغلق الباب خلفه فى هدوء ، لمح زوجته مستلقية على الأريكة تتابع بشغف أحداث المسلسل اليومى على شاشة التلفاز.
جلس على ما تبقى خالياً من الأريكة ، متخذاً ردفها الأيسر مسندا، فأتكأ عليه بذراعه ، وأنخرط فى مشاهدة المسلسل ، دقائق غاب فيها عن متابعة الأحداث ، وغاص فى مقارنة بين زوجته وبطلة المسلسل ،  إنتهى إلى أن زوجته أجمل وأكثر أنوثة ، ولم يكن منحازاً , فأنوثة سهير ندر أن
يوجد مثلها...تمتم بصوتٍ خفيض
-- سهير أجمل
همست دون أن تلفت إليه ، وأناملها تعبث بشعر ساعده
-- بتقول حاجة يا حسن؟؟
أجابها
-- لا..مفيش
جذبته بنعومة ولطف من ساعده ، وأدنت رأسه حتى لامس صدرها الناهد وهمست فى أذنه ، وطرف لسانها يتحسس جلد أذنه
-- إنت لسه متضايق من اللى حصل ليلة إمبارح..يا حبيبى أنا مش زعلانة
صمتت برهة ، ثم أردفت فيما يشبه الغنج
-- ما أنت أكيد هتعوضنى الليلادى.
أوشكت عيناه أن تنغلقا لتسبحا فى حلم ليلة من ليالى شهريار ، لولا أن جذب إنتباهه خبراً تذيّل شاشة التلفاز ، إعتدل جالساً وهو يتمتم فى غضب
-- تانى!!!...هى البلد ناقصة فقر؟؟
إستندت سهير على كوعها الأيمن ، وتطلّعت إلى الشاشة ، لم تلحظ شيئاً غريبا...سألته مندهشة
-- مالك يا حسن ؟؟...أيه حصل يا خويا ؟؟!!
نهض واقفاً وبراكين الغضب تتفجر فى عينيه
-- إبن ال...ناوى يبرك فوق صدورنا ست سنين تانى ، هو أحنا
ناقصين هم .
سار مغاضباً نحو غرفته ، أغلقت سهير التلفاز ، ولحقت به...أغلقت الباب خلفها فى هدوء...دقائق وتصاعدت أنغام الموسيقى الراقصة من سماعة الكاسيت ، وعلى الجهة الأخرى من الحائط ، كانت سارة تسترق السمع.
..............
محمد البنا



التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016