الوعي كلمة تعبر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وعلى تواصل
مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التي تتمثل عادة بحواس الإنسان الخمس.
فكلما ازداد المرء علماً وفهماً ازداد وعياً.
وهذا ما يجب أن يكون عليه المسلمون في كل زمان ومكان. فليس المؤمن بالمغفل
ولا التائه بل هو كيس فطن يدري ويعي ما يدور حوله وتكون أفعاله ومنطلقاته طبقا
لوعيه الذي يمليه عيه دينه أولا وآخرا.
فالوعيُ مرتبةٌ أعلى من مرتبَة الإحساس السمعيِّ والبصريِّ، ولهذا قال
النبي – صلى الله عليه وسلم -: «نضَّر اللهُ امرءًا سمِع مقالتي فوعاها»؛ رواه الترمذي
وغيرُه.
والمؤمنُ الواعِي محميٌّ – بإذن الله – عن مثلِ تلك العثَرات؛ لأن النبي –
صلى الله عليه وسلم – قال: «لا يُلدغُ المؤمنُ من جُحرٍ واحدٍ مرتين»؛ رواه
البخاري ومسلم.
الوعيُ ليس إعمالاً لسوء الظنِّ، ولا تكلُّفًا لما وراء الحقيقة، وليس هو
رجمًا بالغيب، ولكنَّه كياسةً وفِطنة ناشئتان عن سَبْر الأمور ومعرفة أحوال الناس،
واطِّلاعٍ وافرٍ عن الأحداث، بالنظر الدقيق الذي لا يُغالِطُه بهرجةٌ ولا إغراء.
وهو في حقيقته سلاحٌ قد تحتاجُه للهُجوم وقد تحتاجُه للدفاع.
لهذه الأسباب نبهنا نبينا صلى الله عليه وسلم إلى حقيقة هامة تكون قاعدة
عظيمة في مسألة الوعي أن حقائق ومسلمات وأصول الدين سترجع كما كانت في أوائل دعوته
صلى الله عليه وسلم لذلك سينجو الذين يكون لهم إدراك ووعي دون غيرهم.
روى مسلم في صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال:"بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء"
في رواية أخرى: (قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ قال: الذين يَصْلِحون إذا
فسد الناس) وفي لفظ آخر: (يُصلِحون ما أفسد الناس من سنتي) وفي لفظ آخر: (هم
النزاع من القبائل)، وفي لفظ آخر: (هم أناس صالحون قليل في أناس سوء كثير"
اذن فهؤلاء الذين يصلحون ما أفسد النا هم أهل الوعي والإدراك لأنهم بوعيهم
أدركوا الفساد فبذلوا الغالي والنفيس في سبيل ازالته.
لا يخفى على كل ذي عقل وفكر ما تمر به بلادنا وما نعانيه الآن من صعوبة
دعوة كثير من الناس إلى أصول ومسلمات في الدين وكأنك الآن ترجع إلى الوراء أكثر من
ألف وأربعمائة سنة لتوصل حقيقة دين الإسلام للناس.
لن نبحث في الأسباب الآن فنحن في خضم الأمر وفى قلب المعركة فنحاول أن نجد
حلولا عملية وجذرية لعلنا نعيد الوعي مرة أخرى إلى قلوب وعقول المصريين.
يتمثل الوعي في أفضل صورته في النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ذلك
جليا في عدة مواقف منها:
عندما أراد أن يبني دولته بدأ بالعنصر الأساسي في البناء الا وهو الإنسان
فاهتم أولا ببناء الإنسان الذي ستقوم عليه الدولة القوية فصنع رجالا على عينه قلما
يجود الزمان بأمثالهم.
فبنى هذا الإنسان في المكان المناسب والملائم للتربية، في المسجد فبدأ
النبي عليه الصلاة والسلام ببناء المسجد ليتعلم هؤلاء الأتباع كيفية الرجولة وطرق
تحصيلها.
الموقف الثاني الذي ندلل به على عمق وعيه صلى الله عليه وسلم هو ادراكه أنه
لابد من بناء نظام اجتماعي قوى بين هؤلاء الرجال لتجنب المشكلات الاجتماعية التي
تقع بين أفراد المجتمع الواحد فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين
والأنصار لينصهروا جميعا في بوتقة واحدة ويكونوا يدا على من عاداهم.
درس أصيل من قائد ملهم واعى يدرك طبيعة المرحلة التي يعيشها هو وأصحابه
وخطورة التفرق والعصبية وأهمية الاتحاد الاجتماعي.
لذلك وقف هذا البناء الاجتماعي شامخا صامدا أمام أي هجمة تحاول النيل من
وحدته وتمزق وتفرق شمله.
من مواقف الوعي التي لابد من الوقوف أمامها طويلا جدا موقفه عليه الصلاة
السلام من منع التربح من جراء تولى وظائف الدولة بغير الراتب الرسمي وهو ما نراه
بأعيننا في هذا الموقف النبيل:
"فيقول أبو حميد الساعدي رضي الله عنه " استعمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم رجلا على صدقات بني سليم، يدعى ابن اللتبية، فلماجاء حاسبه، قال:
هذا مالكم، وهذا هدية. فقال رسول الله r (فهلا جلست في بيت أبيك وأمك، حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا). ثم
خطبنا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: (أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل
مما ولاني الله، فيأتي فيقول: هذا مالكم وهذاهديةأهديت لي، أفلا جلس في بيت أبيه
وأمه حتى تأتيه هديته، والله لا يأخذ أحد منكم شيئا بغير حقه إلا لقي الله يحمله
يوم القيامة، فلأعرفن أحدا منكم لقي الله يحمل بعيرله رغاء، أو بقرة لها خوار، أو
شاة تيعر). ثم رفع يده حتى رئي بياض إبطه، يقول: (اللهم هل بلغت). بصر عيني وسمع أذني.
بهذه الكلمات الواضحات يسد الحاكم على كل من تول له نفسه أن يتربح من وراء
وظيفته وأن يستغلها في الثراء.
هذا هو القائد الواعي الذي علم أصحابه الوعي لذلك تخرج من هذه المدرسة
الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه القائل:
“لستُ بخِبٍّ والخِبُّ لا يخدَعُني”.
في نهاية هذا المقال الافتتاحي لهذه السلسلة أؤكد على حقيقة هامة جدا الا
وهي إن قوة الأمم في جميع المجالات سوآءا اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية تكمن في
قوة وعى وإدراك أفرادها الذي يمكنهم من استثمار هذا الوعي في خدمة دينها وتنمية
المجتمع.
……………..
هاني حسبو