وكأنه إذ يخترق صفوف المارين والعابرين هارب من مصير
مريع .. يشع الخوف من عينيه الواسعتين أنفاسه متتابعة متسارعة مختلطة برائحة الهم
وأنينه .. أنفاس تنبعث من رئتين ممتلأتين ألما ووجعا ، يقول بلا كلام : أنقذوني
وساعدوني وهلموا معي ، أو اتركوني أغير مصيري المريع بنفسي ، لا يوقفني أحد وإلا
دهسته رغبتي القوية ، وإرادتي الفتية ... ينطلق كأسير سنحت له الفرصة فقطع قيوده
واندفع إلى حيث لا يدري بعدما تجرع ذل الأسر وقهره ردحا طويلا .. لكم أذاقه مستعبـِدُه الأمرَّين من غير جزاء أوفى أو حتى مدح
ٍكريم ٍ .. طعامه الجوع ، وسقياه العطش ، ومع
ذلك يحمله ما لا طاقة له به .
يتنادى الناس : أمسكوا هذا الشارد .. ليوقفه أحد .. لا تتدعوه يهرب .. خذوا حذركم لقد قطع قيوده ، سيدهسنا ، وصار كلما سمع أحد هذه النداءات يتجنبه حتى لا يقترب منه وكأنه صاحب مرض معد أو حامل قنبلة موقوته يخشى الجميع انفجارها ، وهو لا يبالي بنداءاتهم .. لا يخاف منهم ولا من مستعبده الذي ركب الريح ليلحقه ويمسك به ، ويعيده إلى قيده ، وفي يده السوط يلوح به وينادي : عد أيها الكنود الآبق ،.. الكل يهرع من أمامه وينحي له الطريق ، وأنى لهم تقييده ؟ ، وقد ذاق طعم الحرية وفك عقاله ؟ ، وباتت الدنيا كلها أمامه طريقا فسيحا مفتوحا ... تفرقوا جميعا على جانبي الطريق الذي يعج بالبشر .. نساء، ورجال .. شباب وشيوخ .. كبار وصغار .. بعض المحال التجارية شرع أصحابها في إغلاقها خوفا من أن يهجم هذا الثائر الغاضب فيتلف ( فتارين ) العرض وبضائعهم الثمينة المستوردة ذات العلامات والموديلات العالمية .. موبيلات ، وأجهزة كهربائية ، وقطع غيار سيارت بآلاف الجنيهات .. متأكدين أنه لن تصرف لهم تأمينات أو تعويضات إن أتلفت ، وإن صرفت فلن تكون كافية أو مرضية أبدا ، أما السيارات العابرة فلاذت بمراكن آمنة ألا يصيبها ضرر فتقل أثمانها وقيمتها ، فخلت الطريق للـ ( الهارب من مصيره المريع ) حتى يجوزها ولا يضرها ، ولعله لو كان سيارة إسعاف ما خلى أحد لها الطريق إلا على مضض ... جمعهم طريق واحد على اختلاف المراح والمذهب في وقت الذروة ، والناس يخرجون من أشغالهم ووظائفهم كجراد منتشر مشدودة أعناقهم نحو اللا متناهي ، ألجم الإرهاق أفواههم ، وأحنى ظهورهم ، يتنفسون الصعداء بعد يوم خانق بالتحكمات والأوامر والقيود الوظيفية الرتيبة المملة .. ترتسم على وجوههم راحة مؤقتة كالتي يحسها حبيس خرج في جولة بباحة السجن .. يلملمون ما تبقى من ساعات اليوم ليضعها كل واحد منهم في كيس اهتماماته ، فيقضيها بطريقته .. يسابقون عقارب الساعة يستحثون الخطى ..تُقرأ في وجوههم وعيونهم رسائل مشفرة يفك شفرتها إلف المعاناة الروتينية السقيمة وتكرارها .
أتى ( الهارب من مصيره المريع ) من خلف الظهور على حين غرة ، وكأنما صرخة قدر تخطب الهمم الفاترة وتستنهض العزائم الخانعة ... يندفع نحو تلك المرأة التي تسير بجوار صديقتها لم تشعرا به ولم تسمعا صرخات التحذير .. يقترب منها يسمعها تحدث صديقتها وتشكو لها قائلة : لقد تأخرت عليهم كثيرا ، تُرى ماذا يفعلون الآن ؟ ... ربما تركت هذه المرأة أولادا لها وبنات بلا رقيب أو راع ٍ منذ ساعات الصباح الأولى وحتى الآن ، لا تعرف عنهم شيئا سوى أنها تركت لهم التلفاز والكمبيوتر والإنترنت ليتسلوا ويملؤوا فراغهم حتى تعود ، ترى ماذا يشاهدون ؟ وبأي وسيلة يهتدون ويقتدون؟ .. هل خرجوا من البيت وهي لا تدري أم لا ؟ .. تريد أن تدركهم .. وقلبها يعتصره الخوف قلبها الذي يصرخ في صدرها : أدركيهم قبل أن تغريهم الحياة فينساقوا خلف زينتها وملذاتها المهلكة ، يهجم ( الهارب من مصيره المريع ) يقترب من تلك المرأة أتاها من خلفها .. تسمع جلبته وصخبه تلتفت فإذا به هاجم لا يوقفه شيء تصرخ هي وصديقتها .. يصطدم بها فتقع على الأرض .. لم يصبها أذى واضح فقط ترك لها بعض الرضوض والخدوش ... تساعدها صديقتها على القيام وهي ٍتقول لها : الحمد لله قضاء أخف من قضاء ، وأن لم يصب أحد أولادك بسوء ! .
يتجاوز ( الهارب من مصيره المريع ) تلك المرأة ( المفارقة أولادها ) ملاحقا هذا الذي يشير لصاحبه من بعيد مودعا ـ وقد تأخر عليه ـ إشارة تعني أنه سينطلق من دونه هذا اليوم قائلا بصوت مرتفع : سأذهب أنا لن أنتظرك .. صاحب العمل يتعجلني بالاتصال ، وصاحبه يلاحقه ويطلب منه الانتظار ليحمله معه على دراجته البخارية لكنه ينطلق في طريقة قائلا : لا لن أركب معك اليوم كفى ما حدث بالأمس عندما نفد الوقود ، فتأخرتُ ..
ربما أن هذا ( المودع صاحبه ) يعمل بوظيفة بعد الظهر ليحسن بها دخله الذي لا يكفي حاجاته الضرورية لحياة كريمة ، فيذهب ليعمل باقي اليوم ، تاركا البيت لزوجة وأولاد يواجهون وحدهم أمواج الحياة العاتية تعصف بهم ليعود ليلا منهك القوى .. يرتمي فوق سرير خشن تلبد القطن في مرتبته فتحجرت ولا يستطيع أن يُنَجَّدَها ، ومع ذلك ينام كمَيْتٍ حتى الصباح محروم من أقل أنواع المتع الدنوية المباحة ليقوم في اليوم التالي ويستأنف اللف في دولاب الحياة الطاحن ... لم يلحظ ( المودع صديقه ) هجوم
( الهارب من مصيره المريع ) عليه من الخلف رغم أنه التفت مرة أو مرتين خلفه فبسبب انشغال فكره باللحاق بالعمل الإضافي في موعده لم يسمع اقترابه الحثيث الصاخب منه من خلفه حتى ضربه ( الهارب من مصيره المريع ) كثور ناطح فقذفه أمامه لمسافة مترين تقريبا فصُرع أرضا وكاد يدهسه بقوائمه لولا عناية الله التي يسرت له من يجذبه بعيدا عن طريقه لم يستطع القيام على رجليه ربما كسرتا ، وسيجبره هذا على ملازمة البيت إجباريا لفترة من الزمن .. جاء صديقه مسرعا بدراجته البخارية حمله عليها بموعاونة الحاضرين وانطلق به .
يعدو( الهارب من مصيره المريع ) مندفعا تاركا ( المودع صاحبه ) نحو تلك المرأة التي تضع المحمول على أذنها من تحت غطاء رأسها ، وهي لا تشعر به حتى الآن .. يقترب .. يقترب أكثر .. يوشك أن يدهسها يسمعها تتحدث لأحدهم عبر الجوال : لا تخف سأصل بالمعاد وسيكون كل شيء جاهزا .. لا لا لن أكرر هذا الأمر مرة أخرى .... ربما هذه تريد أن تصلح ما أفسدته المطبات المتلاحقة على جسر الحياة الزوجية الضيق المتهالك ... يرتطم بكتفها من الخلف ليقذف بها على جانب الطريق ليتلقفها بعض الرجال الذين حذروها إلا أن المكالمة الهاتفية شغلتها فلم تلتفت لتحذيرهم..
تجاوزها هي الأخرى ولم يَحْدثْ لها مكروه واضح فقط انقطع جزء من فستانها فانكشف بياض كتفها الأيمن وطار المحمول من يدها تلقفتها إحدى النساء العابرات احتضنتها وضمت القَطْع بيدها تسترها عن عيون الناس أما المحمول فلم يجدوا له أثرا واكتشفوا أن حقيبة يدها شقت واختفت حافظة نقودها منها في لمح البصر في خضم هذه المعمعة والتخبط الأعمى ، والمرأة التي تحتضنها تسلي عنها وتثبتها قائلة : لا تحزني ربما كنت ستفقدين شيئا أثمن من الموبايل والنقود .
يقع بصر( الهارب من مصيره المريع ) الآن على امرأة شبه عارية تختال على العالمين في كامل زينتها ، وثيابها المفعمة بالإثارة ، وشعرها الحريري ينساب في الهواء ، وقوامها الذي تتمايل العيون مع كل حركاته وسكناته .. تتقدم ( شبه العارية ) بسرعة في الزحام لتوقف سيارة أجرة والتي لا تتوقف لها لأنها ممتلئة بالركاب ، فتقف أمامها ـ فجأة ـ سيارة خاصة فارهة حديثة ليشير لها صاحبها ذو البذلة البيضاء والنظارة السوداء بالركوب لم تتردد لبرهة ولم تلتفت حولها فقط انحنت على شباك السيارة من الجهة المقابلة له وأرسلت شعرها خلف أذنها تبادلا الابتسامات فقط الابتسامات وفي النهاية وفي ظل هذا الجو القائظ والزحام الخانق تركب بجواره ، بينما ينظر لتنورتها القصيرة الضيقة التي تصف وتشف وتظهر أكثر مما تستر شباب وقفوا ينتظرون الحافلة وقد كَشفت عن ساقها وما فوقها ، وما فوق فوقها .. ياااله من جو حااااااار ... يندفع ( الهارب من مصيره المريع ) نحو السيارة في غفلة منها وممن معها وقبل أن تقفل ( شبه العارية ) باب السيارة يصطدم به اصطداما قويا ينخلع الباب على أثره ويصيب يدها العارية التي ما زالت تمسك مقبض الباب فتنجرح جرحا ليس بالغائر ربما يترك أثرا فيما بعد وقد يُمحى هذا الأثر بعملية تجميل بسيطة كالتي اعتادت عليها ... وصاحب البذلة البيضاء أمام اجتماع الناس حوله وحولها وخوفا من أن ينفضح أمره ينطلق بقوة بسيارته ، و ( شبه العارية ) لم تعتدل جالسةً بعد على الكرسي ليتسبب انطلاق السيارة بسرعة هوجاء بوقوعها عنها فتدحرج ( شبه العارية ) وتمزق ملابسها الممزقة أصلا ! وتزداد جروحها وتصبح غائرة بشكل واضح كادت أن تموت يبدو أن القدر أراد أمرا آخر ، أما صاحب البذلة البيضاء فلم يتوقف ولم ينظر خلفه حتى ، ويتركها تلاقي مصيرها المريع وحدها .
على جانب الطريق ( ماسح أحذية ) أمامه (صندوق البويه) اتخذ بجانبه ـ للفت النظر والدعاية ، وربما لأسباب نفسية أخرى ـ حاملا خشبيا يعرض عليه صور بعض المسئولين الذين أنعموا عليه وأولوه شرف مسح أحذيتهم ، وبها لقطات تظهره وهو يقبـِّل بعضها ، والأغرب أنه يعرض صورا بالأبيض والأسود لوالده وجده من قبله وقد أخذت لكل واحد منهم لقطات مع أحذية مختلفة الأشكال والألوان .. كتب جده ـ والذي يشبهه لحد بعيد ـ على إحداها وهو يقبل فيها حذاءً : ( حذاء الملك ) ، ووالده ـ والذي يشبهه لحد بعيد أيضا ـ يقبل حذاء في لقطة أخرى كتب عليها : ( حذاء الرئيس ) ... تُرى هذا صحيح ؟ أم أنه للدعاية فقط وجذب الأنظار ؟ .. ربما الاثنان معا .. ( ماسح الأحذية) لم يفلت هو الآخر من ضربة قوية من ( الهارب من مصيره المريع ) كادت تقصمه هو وصندوق (البويه) خاصته ، كان سيفلت من تلك الضربة المباغته لو أنه انتبه للـ (هوجة) التي تدور من حوله ، إلا أن رأسه دائما لأسفل قريبا من الأحذية ... جاءته الضربة على رأسه ورقبته ليقوم بعدها مسندا رقبته على كفه .. ربما ستحتاج رقبته ( واقي الرقبة من الانحناء ) والذي سيحفظها مرتفعة مستقيمة للأبد .
أما هذان فشاب وفتاة يبدو أنهما مخطوبان ارتفع صوتها وهي تقول : لن أستريح مع أمك في بيت واحد فضلا عن أنها مسنة وقد تحتاج لرعاية خاصة في يوم من الأيام ، أم تريدني خدامة لك ولأمك ؟ ، وهو يستعطفها ويستجديها ويقول : سنصل لحل .. اطمئني .. أرجوك لا ترفعي صوتك ... ربما سيفكر هذا المفتون بالجمال في أن يضع أمه في دار للمسنين حتى لا تضيع فرصته الأخيرة في الارتباط بتلك الجميلة النضرة المملوءة حيوية وشبابا ذات البشرة البيضاء ، وشعر كليل ، وعيون قطة ساحرة ، وقوام غزلان أخاذ .... هل سيفكر في التخلص من أمه المسنة بوسيلة أو أخرى ؟ ، ويستولي على شقتها التي ربته فيها وأفنت من عمرها سنين في خدمته ، وحتى لا تهرب هذه العصفورة الساحرة من بين يديه التي يمكن أن يبيع الدنيا بأسرها من أجل أن يضمه معها مكان واحد ... يقترب منه ( الهارب من مصيره المريع ) وهو يجز على أسنانه نافخا من بين ثناياها دخان غضب دفين ... التفت ( المفتون بالجمال ) ليرى جبلا من الغضب يهجم عليه يبتعد مسرعا من أمام وجه ( الهارب من مصيره المريع ) يقع على ظهره ، فتأتيه من حيث لا يرى ولا يرى الجميع ثلاث قطع خشبية قوية وثقيلة فتقع على قدميه والجميع من حوله يحاولون حملهن .. قطع ثقيلة ناءت بالرجال .. تُنُودِيَ من حوله : إسعاف .. إسعاف قدماه كسرتا يحتاج إسعافا حالا ... بينما يرسل له ( الهارب من مصيره المريع ) رسالة بنظرة خاطفة تقول : الزم الآن أيها ( المفتون بالجمال ) بيت أمك مرغما لتقوم أمك ثم أمك ثم أمك على رعايتك .
في منتصف الطريق وعلى بعد عشرين مترا من ( الهارب من مصيره المريع ) رجلان يسيران متجهان نحو سيارة ( فورد فور باي فور ) بينهما رجل أربعيني أشقر عيناه زرقاوان يتحدثون معه بالإنجليزية الأمريكية أحدهما ينظر خلفه على وقع الجلبة ، وهو يحمل حقيبة أوراق ، فيجد ( الهارب من مصيره المريع )متجها نحوه مباشرة ، فينادي : اجر يا سيادة المدير .. اجر أنت والخبير .. اركبا السيارة بسرعة .. والمدير بلمحة خاطفة وعلى أثر التحذير يحجز بيده عن الخبير الأجنبي ويجري به داخل السيارة بسرعة خاطفة قائلا بالإنجليزية الأمريكية : اجر يا ( توماس ) لا يصيبنك أذى .. ليجد ( حامل الحقيبة ) نفسه في مواجهة مباشرة بمفرده مع ( الهارب من مصيره المريع ) فينال ضربته ، فيصطدم بمؤخرة السيارة ، فيقع على الأرض .. ينزل المدير من السيارة بعدما اطمأن من ابتعاد ( الهارب من مصيره المريع ) ومن خلفه الخبير الأجنبي .. أول ما نظر إليه المدير كان مؤخرة السيارة يتحسسها بيده ، بينما ( حامل الحقيبة ) يتكئ على إحدى يديه والثانية تقبض على صدره والذي تلقى به الضربة قوية .. يقول المدير مادًّا يده يلتقط الحقيبة من فوق الأرض : الحمد لله .. الحمد لله لم يصب توماس بسوء .. يركبان السيارة ويتركان ( حامل الحقيبة) وحده يعاني ألم صدره ، ومصيره المريع ، وقد انفض الناس من حولهم يتبعون ملاحقين ( الهارب من مصيره المريع ) ، والذي ما زال يشق الصفوف ، ويرجف القلوب .ما زال ( الهارب من مصيره المريع ) منطلقا بين تلك الأوجاع والهموم والآثام يشقها شقا ... ينطلق غير عابئ بحرارة الجو أو الزحام .. ما زال مندفعا بقوة وكأنه صخرة لفظها شاهق جبل حانق على ما يراه يحدث عند سفحه من عظائم وآثام ..
لم تُجدِ نفعا ملاحقة الناس له وقد قاموا بجذبه أحيانا وعرقلته أحيانا ليغير مساره ، ومع طول الطريق الذي لم ير له نهاية ، ولم يقابل فيه غير أعين عمي وآذان صم وقلوب أشد صلابة من الأحجار ... عرقله جزء ناتئ عن الأسفلت ، أو ربما غطاء البلَّاعة المنزوع عنها بلا شارة تحذير ، فوقع المسكين أرضا مادًّا قوائمه الأربعة منهك القوى يعلوه الإرهاق ، شبه ميت ، يحاول رفع رأسه عن الأرض والقيام ليستأنف الجري لكن ( الكارُّو ) التي يجرها خلفه ومعلقة في ظهره حالت دون ذلك ، لا سيما الأخشاب المحملة عليها ، ورغم أن بعض الأخشاب تناثر من فوقها أثناء الجري ومحاولة الفرار إلا أنها مازالت ثقيلة ومعجزة .. كان منظره وهو يجري ويجر تلك ( الكارُّو ) المحملة بالأخشاب مريعا مخيفا ارتجفت له القلوب ، واقشعرت منه الأبدان ، كما أن حركة (الكارو) السريعة الغير محسوبة وارتطام الأخشاب بالأسفلت أحدث جلبة وصخبا قويا . التفَّ الناس حوله وهو مصروع على الأرض ، أدركه مالكه ( العَرْبَجِيّ ) ، وكان يجري خلفه منذ بداية الطريق حيث هرب من قيده ، وظل يستغيث وهو يجري ويرفع السوط مُلوِّحا به طالبا المساعدة من الناس ليوقفوا الفرس الشارد ،ولما وصل له أحكم قبضته هذه المرة على اللجام ، وأخذ يضربه بالسوط ضربات متلاحقه قوية مؤلمة ليقوم عن الأرض .. جعل البعض يلومون (العَرْبَجِيّ) فقط على تقصيره في مراقبته ويأمرونه بشراء عقال متين وإحكام القيد بعد ذلك ، وبعض آخر يجمع الأخشاب المتناثرة وسط الطريق ويضعها على ( الكارُّو ) ليخلوا الطريق للمشاة والسيارات ، وبعضهم كان يؤخرها جانبا ليبعدها عن قدميه ليتمكن من العبور وحسب ، وقام أحدهم ينظم حركة المرور ، بينما وقف البعض يُمَصمص شفاهه مُعْرِبًا عن ألمه وشفقته لهذا المسكين المثقل بالأحمال المحاصر بالقهر والأوجاع ، الملاحق بسياط الذل والاستعباد .. لكن بالنهاية ينفضُّ الجميع من حولهما كل في طريقه وغايته .
================
محمد شعبان
يتنادى الناس : أمسكوا هذا الشارد .. ليوقفه أحد .. لا تتدعوه يهرب .. خذوا حذركم لقد قطع قيوده ، سيدهسنا ، وصار كلما سمع أحد هذه النداءات يتجنبه حتى لا يقترب منه وكأنه صاحب مرض معد أو حامل قنبلة موقوته يخشى الجميع انفجارها ، وهو لا يبالي بنداءاتهم .. لا يخاف منهم ولا من مستعبده الذي ركب الريح ليلحقه ويمسك به ، ويعيده إلى قيده ، وفي يده السوط يلوح به وينادي : عد أيها الكنود الآبق ،.. الكل يهرع من أمامه وينحي له الطريق ، وأنى لهم تقييده ؟ ، وقد ذاق طعم الحرية وفك عقاله ؟ ، وباتت الدنيا كلها أمامه طريقا فسيحا مفتوحا ... تفرقوا جميعا على جانبي الطريق الذي يعج بالبشر .. نساء، ورجال .. شباب وشيوخ .. كبار وصغار .. بعض المحال التجارية شرع أصحابها في إغلاقها خوفا من أن يهجم هذا الثائر الغاضب فيتلف ( فتارين ) العرض وبضائعهم الثمينة المستوردة ذات العلامات والموديلات العالمية .. موبيلات ، وأجهزة كهربائية ، وقطع غيار سيارت بآلاف الجنيهات .. متأكدين أنه لن تصرف لهم تأمينات أو تعويضات إن أتلفت ، وإن صرفت فلن تكون كافية أو مرضية أبدا ، أما السيارات العابرة فلاذت بمراكن آمنة ألا يصيبها ضرر فتقل أثمانها وقيمتها ، فخلت الطريق للـ ( الهارب من مصيره المريع ) حتى يجوزها ولا يضرها ، ولعله لو كان سيارة إسعاف ما خلى أحد لها الطريق إلا على مضض ... جمعهم طريق واحد على اختلاف المراح والمذهب في وقت الذروة ، والناس يخرجون من أشغالهم ووظائفهم كجراد منتشر مشدودة أعناقهم نحو اللا متناهي ، ألجم الإرهاق أفواههم ، وأحنى ظهورهم ، يتنفسون الصعداء بعد يوم خانق بالتحكمات والأوامر والقيود الوظيفية الرتيبة المملة .. ترتسم على وجوههم راحة مؤقتة كالتي يحسها حبيس خرج في جولة بباحة السجن .. يلملمون ما تبقى من ساعات اليوم ليضعها كل واحد منهم في كيس اهتماماته ، فيقضيها بطريقته .. يسابقون عقارب الساعة يستحثون الخطى ..تُقرأ في وجوههم وعيونهم رسائل مشفرة يفك شفرتها إلف المعاناة الروتينية السقيمة وتكرارها .
أتى ( الهارب من مصيره المريع ) من خلف الظهور على حين غرة ، وكأنما صرخة قدر تخطب الهمم الفاترة وتستنهض العزائم الخانعة ... يندفع نحو تلك المرأة التي تسير بجوار صديقتها لم تشعرا به ولم تسمعا صرخات التحذير .. يقترب منها يسمعها تحدث صديقتها وتشكو لها قائلة : لقد تأخرت عليهم كثيرا ، تُرى ماذا يفعلون الآن ؟ ... ربما تركت هذه المرأة أولادا لها وبنات بلا رقيب أو راع ٍ منذ ساعات الصباح الأولى وحتى الآن ، لا تعرف عنهم شيئا سوى أنها تركت لهم التلفاز والكمبيوتر والإنترنت ليتسلوا ويملؤوا فراغهم حتى تعود ، ترى ماذا يشاهدون ؟ وبأي وسيلة يهتدون ويقتدون؟ .. هل خرجوا من البيت وهي لا تدري أم لا ؟ .. تريد أن تدركهم .. وقلبها يعتصره الخوف قلبها الذي يصرخ في صدرها : أدركيهم قبل أن تغريهم الحياة فينساقوا خلف زينتها وملذاتها المهلكة ، يهجم ( الهارب من مصيره المريع ) يقترب من تلك المرأة أتاها من خلفها .. تسمع جلبته وصخبه تلتفت فإذا به هاجم لا يوقفه شيء تصرخ هي وصديقتها .. يصطدم بها فتقع على الأرض .. لم يصبها أذى واضح فقط ترك لها بعض الرضوض والخدوش ... تساعدها صديقتها على القيام وهي ٍتقول لها : الحمد لله قضاء أخف من قضاء ، وأن لم يصب أحد أولادك بسوء ! .
يتجاوز ( الهارب من مصيره المريع ) تلك المرأة ( المفارقة أولادها ) ملاحقا هذا الذي يشير لصاحبه من بعيد مودعا ـ وقد تأخر عليه ـ إشارة تعني أنه سينطلق من دونه هذا اليوم قائلا بصوت مرتفع : سأذهب أنا لن أنتظرك .. صاحب العمل يتعجلني بالاتصال ، وصاحبه يلاحقه ويطلب منه الانتظار ليحمله معه على دراجته البخارية لكنه ينطلق في طريقة قائلا : لا لن أركب معك اليوم كفى ما حدث بالأمس عندما نفد الوقود ، فتأخرتُ ..
ربما أن هذا ( المودع صاحبه ) يعمل بوظيفة بعد الظهر ليحسن بها دخله الذي لا يكفي حاجاته الضرورية لحياة كريمة ، فيذهب ليعمل باقي اليوم ، تاركا البيت لزوجة وأولاد يواجهون وحدهم أمواج الحياة العاتية تعصف بهم ليعود ليلا منهك القوى .. يرتمي فوق سرير خشن تلبد القطن في مرتبته فتحجرت ولا يستطيع أن يُنَجَّدَها ، ومع ذلك ينام كمَيْتٍ حتى الصباح محروم من أقل أنواع المتع الدنوية المباحة ليقوم في اليوم التالي ويستأنف اللف في دولاب الحياة الطاحن ... لم يلحظ ( المودع صديقه ) هجوم
( الهارب من مصيره المريع ) عليه من الخلف رغم أنه التفت مرة أو مرتين خلفه فبسبب انشغال فكره باللحاق بالعمل الإضافي في موعده لم يسمع اقترابه الحثيث الصاخب منه من خلفه حتى ضربه ( الهارب من مصيره المريع ) كثور ناطح فقذفه أمامه لمسافة مترين تقريبا فصُرع أرضا وكاد يدهسه بقوائمه لولا عناية الله التي يسرت له من يجذبه بعيدا عن طريقه لم يستطع القيام على رجليه ربما كسرتا ، وسيجبره هذا على ملازمة البيت إجباريا لفترة من الزمن .. جاء صديقه مسرعا بدراجته البخارية حمله عليها بموعاونة الحاضرين وانطلق به .
يعدو( الهارب من مصيره المريع ) مندفعا تاركا ( المودع صاحبه ) نحو تلك المرأة التي تضع المحمول على أذنها من تحت غطاء رأسها ، وهي لا تشعر به حتى الآن .. يقترب .. يقترب أكثر .. يوشك أن يدهسها يسمعها تتحدث لأحدهم عبر الجوال : لا تخف سأصل بالمعاد وسيكون كل شيء جاهزا .. لا لا لن أكرر هذا الأمر مرة أخرى .... ربما هذه تريد أن تصلح ما أفسدته المطبات المتلاحقة على جسر الحياة الزوجية الضيق المتهالك ... يرتطم بكتفها من الخلف ليقذف بها على جانب الطريق ليتلقفها بعض الرجال الذين حذروها إلا أن المكالمة الهاتفية شغلتها فلم تلتفت لتحذيرهم..
تجاوزها هي الأخرى ولم يَحْدثْ لها مكروه واضح فقط انقطع جزء من فستانها فانكشف بياض كتفها الأيمن وطار المحمول من يدها تلقفتها إحدى النساء العابرات احتضنتها وضمت القَطْع بيدها تسترها عن عيون الناس أما المحمول فلم يجدوا له أثرا واكتشفوا أن حقيبة يدها شقت واختفت حافظة نقودها منها في لمح البصر في خضم هذه المعمعة والتخبط الأعمى ، والمرأة التي تحتضنها تسلي عنها وتثبتها قائلة : لا تحزني ربما كنت ستفقدين شيئا أثمن من الموبايل والنقود .
يقع بصر( الهارب من مصيره المريع ) الآن على امرأة شبه عارية تختال على العالمين في كامل زينتها ، وثيابها المفعمة بالإثارة ، وشعرها الحريري ينساب في الهواء ، وقوامها الذي تتمايل العيون مع كل حركاته وسكناته .. تتقدم ( شبه العارية ) بسرعة في الزحام لتوقف سيارة أجرة والتي لا تتوقف لها لأنها ممتلئة بالركاب ، فتقف أمامها ـ فجأة ـ سيارة خاصة فارهة حديثة ليشير لها صاحبها ذو البذلة البيضاء والنظارة السوداء بالركوب لم تتردد لبرهة ولم تلتفت حولها فقط انحنت على شباك السيارة من الجهة المقابلة له وأرسلت شعرها خلف أذنها تبادلا الابتسامات فقط الابتسامات وفي النهاية وفي ظل هذا الجو القائظ والزحام الخانق تركب بجواره ، بينما ينظر لتنورتها القصيرة الضيقة التي تصف وتشف وتظهر أكثر مما تستر شباب وقفوا ينتظرون الحافلة وقد كَشفت عن ساقها وما فوقها ، وما فوق فوقها .. ياااله من جو حااااااار ... يندفع ( الهارب من مصيره المريع ) نحو السيارة في غفلة منها وممن معها وقبل أن تقفل ( شبه العارية ) باب السيارة يصطدم به اصطداما قويا ينخلع الباب على أثره ويصيب يدها العارية التي ما زالت تمسك مقبض الباب فتنجرح جرحا ليس بالغائر ربما يترك أثرا فيما بعد وقد يُمحى هذا الأثر بعملية تجميل بسيطة كالتي اعتادت عليها ... وصاحب البذلة البيضاء أمام اجتماع الناس حوله وحولها وخوفا من أن ينفضح أمره ينطلق بقوة بسيارته ، و ( شبه العارية ) لم تعتدل جالسةً بعد على الكرسي ليتسبب انطلاق السيارة بسرعة هوجاء بوقوعها عنها فتدحرج ( شبه العارية ) وتمزق ملابسها الممزقة أصلا ! وتزداد جروحها وتصبح غائرة بشكل واضح كادت أن تموت يبدو أن القدر أراد أمرا آخر ، أما صاحب البذلة البيضاء فلم يتوقف ولم ينظر خلفه حتى ، ويتركها تلاقي مصيرها المريع وحدها .
على جانب الطريق ( ماسح أحذية ) أمامه (صندوق البويه) اتخذ بجانبه ـ للفت النظر والدعاية ، وربما لأسباب نفسية أخرى ـ حاملا خشبيا يعرض عليه صور بعض المسئولين الذين أنعموا عليه وأولوه شرف مسح أحذيتهم ، وبها لقطات تظهره وهو يقبـِّل بعضها ، والأغرب أنه يعرض صورا بالأبيض والأسود لوالده وجده من قبله وقد أخذت لكل واحد منهم لقطات مع أحذية مختلفة الأشكال والألوان .. كتب جده ـ والذي يشبهه لحد بعيد ـ على إحداها وهو يقبل فيها حذاءً : ( حذاء الملك ) ، ووالده ـ والذي يشبهه لحد بعيد أيضا ـ يقبل حذاء في لقطة أخرى كتب عليها : ( حذاء الرئيس ) ... تُرى هذا صحيح ؟ أم أنه للدعاية فقط وجذب الأنظار ؟ .. ربما الاثنان معا .. ( ماسح الأحذية) لم يفلت هو الآخر من ضربة قوية من ( الهارب من مصيره المريع ) كادت تقصمه هو وصندوق (البويه) خاصته ، كان سيفلت من تلك الضربة المباغته لو أنه انتبه للـ (هوجة) التي تدور من حوله ، إلا أن رأسه دائما لأسفل قريبا من الأحذية ... جاءته الضربة على رأسه ورقبته ليقوم بعدها مسندا رقبته على كفه .. ربما ستحتاج رقبته ( واقي الرقبة من الانحناء ) والذي سيحفظها مرتفعة مستقيمة للأبد .
أما هذان فشاب وفتاة يبدو أنهما مخطوبان ارتفع صوتها وهي تقول : لن أستريح مع أمك في بيت واحد فضلا عن أنها مسنة وقد تحتاج لرعاية خاصة في يوم من الأيام ، أم تريدني خدامة لك ولأمك ؟ ، وهو يستعطفها ويستجديها ويقول : سنصل لحل .. اطمئني .. أرجوك لا ترفعي صوتك ... ربما سيفكر هذا المفتون بالجمال في أن يضع أمه في دار للمسنين حتى لا تضيع فرصته الأخيرة في الارتباط بتلك الجميلة النضرة المملوءة حيوية وشبابا ذات البشرة البيضاء ، وشعر كليل ، وعيون قطة ساحرة ، وقوام غزلان أخاذ .... هل سيفكر في التخلص من أمه المسنة بوسيلة أو أخرى ؟ ، ويستولي على شقتها التي ربته فيها وأفنت من عمرها سنين في خدمته ، وحتى لا تهرب هذه العصفورة الساحرة من بين يديه التي يمكن أن يبيع الدنيا بأسرها من أجل أن يضمه معها مكان واحد ... يقترب منه ( الهارب من مصيره المريع ) وهو يجز على أسنانه نافخا من بين ثناياها دخان غضب دفين ... التفت ( المفتون بالجمال ) ليرى جبلا من الغضب يهجم عليه يبتعد مسرعا من أمام وجه ( الهارب من مصيره المريع ) يقع على ظهره ، فتأتيه من حيث لا يرى ولا يرى الجميع ثلاث قطع خشبية قوية وثقيلة فتقع على قدميه والجميع من حوله يحاولون حملهن .. قطع ثقيلة ناءت بالرجال .. تُنُودِيَ من حوله : إسعاف .. إسعاف قدماه كسرتا يحتاج إسعافا حالا ... بينما يرسل له ( الهارب من مصيره المريع ) رسالة بنظرة خاطفة تقول : الزم الآن أيها ( المفتون بالجمال ) بيت أمك مرغما لتقوم أمك ثم أمك ثم أمك على رعايتك .
في منتصف الطريق وعلى بعد عشرين مترا من ( الهارب من مصيره المريع ) رجلان يسيران متجهان نحو سيارة ( فورد فور باي فور ) بينهما رجل أربعيني أشقر عيناه زرقاوان يتحدثون معه بالإنجليزية الأمريكية أحدهما ينظر خلفه على وقع الجلبة ، وهو يحمل حقيبة أوراق ، فيجد ( الهارب من مصيره المريع )متجها نحوه مباشرة ، فينادي : اجر يا سيادة المدير .. اجر أنت والخبير .. اركبا السيارة بسرعة .. والمدير بلمحة خاطفة وعلى أثر التحذير يحجز بيده عن الخبير الأجنبي ويجري به داخل السيارة بسرعة خاطفة قائلا بالإنجليزية الأمريكية : اجر يا ( توماس ) لا يصيبنك أذى .. ليجد ( حامل الحقيبة ) نفسه في مواجهة مباشرة بمفرده مع ( الهارب من مصيره المريع ) فينال ضربته ، فيصطدم بمؤخرة السيارة ، فيقع على الأرض .. ينزل المدير من السيارة بعدما اطمأن من ابتعاد ( الهارب من مصيره المريع ) ومن خلفه الخبير الأجنبي .. أول ما نظر إليه المدير كان مؤخرة السيارة يتحسسها بيده ، بينما ( حامل الحقيبة ) يتكئ على إحدى يديه والثانية تقبض على صدره والذي تلقى به الضربة قوية .. يقول المدير مادًّا يده يلتقط الحقيبة من فوق الأرض : الحمد لله .. الحمد لله لم يصب توماس بسوء .. يركبان السيارة ويتركان ( حامل الحقيبة) وحده يعاني ألم صدره ، ومصيره المريع ، وقد انفض الناس من حولهم يتبعون ملاحقين ( الهارب من مصيره المريع ) ، والذي ما زال يشق الصفوف ، ويرجف القلوب .ما زال ( الهارب من مصيره المريع ) منطلقا بين تلك الأوجاع والهموم والآثام يشقها شقا ... ينطلق غير عابئ بحرارة الجو أو الزحام .. ما زال مندفعا بقوة وكأنه صخرة لفظها شاهق جبل حانق على ما يراه يحدث عند سفحه من عظائم وآثام ..
لم تُجدِ نفعا ملاحقة الناس له وقد قاموا بجذبه أحيانا وعرقلته أحيانا ليغير مساره ، ومع طول الطريق الذي لم ير له نهاية ، ولم يقابل فيه غير أعين عمي وآذان صم وقلوب أشد صلابة من الأحجار ... عرقله جزء ناتئ عن الأسفلت ، أو ربما غطاء البلَّاعة المنزوع عنها بلا شارة تحذير ، فوقع المسكين أرضا مادًّا قوائمه الأربعة منهك القوى يعلوه الإرهاق ، شبه ميت ، يحاول رفع رأسه عن الأرض والقيام ليستأنف الجري لكن ( الكارُّو ) التي يجرها خلفه ومعلقة في ظهره حالت دون ذلك ، لا سيما الأخشاب المحملة عليها ، ورغم أن بعض الأخشاب تناثر من فوقها أثناء الجري ومحاولة الفرار إلا أنها مازالت ثقيلة ومعجزة .. كان منظره وهو يجري ويجر تلك ( الكارُّو ) المحملة بالأخشاب مريعا مخيفا ارتجفت له القلوب ، واقشعرت منه الأبدان ، كما أن حركة (الكارو) السريعة الغير محسوبة وارتطام الأخشاب بالأسفلت أحدث جلبة وصخبا قويا . التفَّ الناس حوله وهو مصروع على الأرض ، أدركه مالكه ( العَرْبَجِيّ ) ، وكان يجري خلفه منذ بداية الطريق حيث هرب من قيده ، وظل يستغيث وهو يجري ويرفع السوط مُلوِّحا به طالبا المساعدة من الناس ليوقفوا الفرس الشارد ،ولما وصل له أحكم قبضته هذه المرة على اللجام ، وأخذ يضربه بالسوط ضربات متلاحقه قوية مؤلمة ليقوم عن الأرض .. جعل البعض يلومون (العَرْبَجِيّ) فقط على تقصيره في مراقبته ويأمرونه بشراء عقال متين وإحكام القيد بعد ذلك ، وبعض آخر يجمع الأخشاب المتناثرة وسط الطريق ويضعها على ( الكارُّو ) ليخلوا الطريق للمشاة والسيارات ، وبعضهم كان يؤخرها جانبا ليبعدها عن قدميه ليتمكن من العبور وحسب ، وقام أحدهم ينظم حركة المرور ، بينما وقف البعض يُمَصمص شفاهه مُعْرِبًا عن ألمه وشفقته لهذا المسكين المثقل بالأحمال المحاصر بالقهر والأوجاع ، الملاحق بسياط الذل والاستعباد .. لكن بالنهاية ينفضُّ الجميع من حولهما كل في طريقه وغايته .
================
محمد شعبان