هذا هو اللقاء الثالث مع وصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها
خاتمه، آيات سورة الأنعام. تحدثنا فيما مضى عن جملة من الأوامر والنواهي الشرعية
التي توجد في هذه الآيات واليوم نكمل المسيرة بفضل الله تعالى.
قوله تعالى"ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ
أشده."
وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية. وكثرة التوجيهات
الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشيا في ذلك المجتمع من
ضيعة اليتيم فيه ; حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه ; فعهد إليه بأشرف مهمة في
الوجود. حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة، وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه
به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه:
فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم.
فيصونه وينميه، حتى يسلمه له كاملاً ناميا عند بلوغه أشده. أي اشتداد قوته الجسمية
والعقلية. ليحمي ماله، ويحسن القيام عليه.
"وأوفوا الكيل والميزان بالقسط -لا نكلف نفسا إلا وسعها"
المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة. والذي يوصي بها ويأمر هو
الله. ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه
شأن العقيدة، وعلاقتها بكل جوانب الحياة.
ولقد كانت الجاهليات تفصل بين العقيدة والعبادات , وبين الشرائع والمعاملات
. . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: (قالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن
نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء)
ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع
والشراء , وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة , للدلالة على طبيعة هذا الدين ,
وتسويته بين العقيدة والشريعة , وبين العبادة والمعاملة , في أنها كلها من مقومات
هذا الدين , المرتبطة كلها في كيانه الأصيل.
"وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى".
وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري -وقد ربطه بالله ابتداء -إلى مستوى س
رفيع ، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته . . فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري.
ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أو عليهم، أو القضاء
بينهم وبين الناس. وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة
الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده , ومراقبة الله وحده , اكتفاء به من
مناصرة ذوي القربى , وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه ; وهو - سبحانه -
أقرب إلى المرء من حبل الوريد . .
لذلك يعقب على هذا الأمر -وعلى الوصايا التي قبله -مذكراً بعهد الله:
(وبعهد الله أوفوا).
ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى. ومن عهد الله توفية الكيل
والميزان بالقسط. ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. ومن عهد
الله حرمة النفس إلا بالحق. وقبل ذلك كله. من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً. فهذا
هو العهد الأكبر، المأخوذ على فطرة البشر ، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها , شاعرة بوجوده
في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها .
ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف:
(ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون).
وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ
السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ (153)
والذكر ضد الغفلة. والقلب الذاكر غير الغافل، وهو يذكر عهد الله كله، ويذكر
وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها.
. . . هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية
وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله، وما سبقها من حديث
الحاكمية والتشريع . . . هذه هي صراط الله المستقيم. صراطه الذي ليس وراءه إلا
السبل المتفرقة عن السبيل:
(وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون).
هذا هو نهاية المطاف مع هذه الآيات الجامعات لكل دساتير العالم فياليتنا
نرد إلى دستورنا الأصلي الرباني ونتعامل معه التعامل الأمثل.
…………………………….
هاني حسبو