" أين مَنْ تُصَلِّيانِ له ؟ كُفَّا عن دعائِه لي ؟ لم أعد بحاجةٍ له، ماذا يمكنه أن يفعل بي أكثر من ذلك، بل لماذا يفعل بي كل هذا ـ أصلا ـ ؟ ، كم من أناس يرتكبون الكبائر والمُوبقات جهارًا نهارًا ولايزالون يمشون على أقدامهم، وآخرون لم يفعلوا عُشْرَ ما فعلوه ، ومع ذلك يترصدُهم البلاءُ تلوَ البلاء بلا رحمة أو هَوادة .. " .... هذا ما كنتُ أقوله ـ قبل اليومِ ـ لزوجتى وابنتِي، وأنا أقاسي تلك الفترةَ الصعبةَ المشؤومةَ التي احتوشتني فيها أحاسيسُ السُّخْطِ والقنوط ، مرَّتْ إلى غير رجعة بعد مصافحةٍ القدر ومصالحته الكبرى ، كابدْتُ فيها الأَمَرَّين ، كنتُ أتعمَّدُ النومَ قبيل أذان الفجر حتى لا أسمع الأذان ، ولا أصحو إلا بعد أذان العصر ، وإن صادف واستيقظت قبله أضع الوسادةَ فوقَ الوسادةِ فوقَ أذني .. كانت الأصواتُ في الشارع تقتلني في اليوم آلافَ المرات ، ضجةُ الطلابِ أثناءَ ذهابهم وإيابهم من المدارس والدروس الخصوصية، وأصوات العمال والموظفين وهم يُهرعون إلى مصالحهم ، بينما أنا حبيسُ أربعةِ حوائط صماء أحدُها معلقٌ عليه تلفاز لا يسلي عنِّي بقدر ما يزيد شعوري بالألم والوحدة والعزلة أضعافًا مضاعفة، وأنا الذي كنتُ شعلة نشاط وحيوية متوقدة ، طاقتي على العمل والحركة لا تنفد ، رغم وظيفتي الأساسية بالحكومة ، كنت أعمل بوظيفة أخرى بعدها ، وأسست كذلك محلا تجاريًّا للأدوات المكتبية ، وكنت أتابع العاملين به من وقت لآخر ، ناجح بكل المقاييس وأرتقي من نجاح لآخر ولا يوقفني شيء ولا أستسلم أبدًا .. كنتُ في تلك الفترة الصعبة المشؤومة أجلس الساعاتِ الطوالَ أنقب في ذاكرتي وأنكتها نكتا، فأجدني موظفُا ملتزما خدوما يحبني القاصي والداني، وجارا متعاونا يأمن الجميع جانبي وجواري، واصلا لرحمي ورحم زوجتي، صحبتي مرغوبةٌ لخفة ظلي وحكاياي اللطيفة ونكاتي و (قفشاتي) ، وضحكي الذي لا ينقطع، لا طعمَ لرحلةٍ أو أي اجتماع عائلي بدوني ، هكذا استُودِعَتْ محبتي قلوبَ الآخرين، وإلى الآن لا تنقطع الاتصالاتُ الهاتفية والزيارات من الجميع أصدقاءَ ومعارفَ وأقاربَ ، الكلُّ يأتون ليخففوا عني ، فتتعجبون عندما تجدونني أنا من يخفف عنهم ويخلق لهم الحلول لكل معاناة ، فإذا ما خلوتُ إلى نفسي استلمتني الأوجاعُ وقائمةٌ طويلة من الأدوية المُرَّة والحُقن المؤلمة ، فيأكلني القنوطُ والسخط ُعلى ما آلت إليه حالتي مُرسلًا إلى عقلي الباطن آلاف الاستفهامات ، أأنا مَنْ يستحق ؟ ، أم العشرات من (البلطجية ) وقطاع الطرق ؟ أأنا من يستحق ؟ أم المئاتُ من المرتشين والمُقْتتاتين على آلام الناس ومعاناتهم ؟ ، أأنا من يستحق ؟ أأنا من يستحق ؟ ، كل تلك الاستفسارات وأكثر منها كانت تثقل كاهل أعصابي التالفة فأهتاج بعنف لأتفه الأشياء ، أشتم وأكسر ، وأصرخ قائلا:ـ أغلقوا الباااااب ، لا أريد أحدااااا ، لا أريد الطعاااااام ، اذهبي ـ يا ابنتي ـ إلى زوجك وصغارك فهم أحوج إليك مني ، واذهبي أنتِ وَجِدِي لك زوجًا غيري ما عدتُ أصلح زوجًا ولا أبًا ولا جَدًّا ولا أيَّ شيء ، اذهبوا جميعًا إلى الجحيم ، نظراتكم تقتلني ، حضوركم لا يريحني ، غُورووووا .. حاولتُ الانتحارَ أكثرَ من مرةٍ ، مرةً تناولتً كلَّ علبِ الدواء، ثم أفقت في غرفة العناية المكثفة بالمستشفى ، مرةً زحفتُ إلى الشرفة في غفلةٍ من الجميع بالبيت واجتهدتُ لأرمي نفسي منها ، ورآني أحد الشباب المارين أسفلها ، صعد مسرعا ودخلوا جميعا ـ كنتم لتضحكوا على منظري وهم يلتقطونني وأنا معلق بمنشر الغسيل من ملابسي من قفاي ، أو ربما كنتم ستبكون لحالي البائسة، للحق احتملت زوجتي وابنتي مني الكثير والكثير ، كانتا تصليان من أجلي فأنهرهما ساخرا :ـ أين من تصليان له ؟ لماذا يفعل بي كل هذا ؟، أما كان يكفيه أن يأخذ منى واحدةً ، حتى يأخذ الأخري ويتركني هكذا لا أستطيع أن أناول نفسي كوبَ ماءٍ ، حتى الحمام ، تحول إلى إناءين ، واحدٌ للبولِ عن يميني والآخرُ للبراز تحتَ السريرِ ... في تلك الأثناء الصعبة افتقدتُ اثنين من الأصدقاء اللَّذين لم ينقطعا عني طوال تلك الفترة، فاتصلتُ بهما، أما أحدهما فعرفتُ أنه هارب من حكمٍ بالسجن خمسَ سنواتٍ لاختلاسه من مال عهدته خمسة ملايين جنيه، ولا يعرف أحد مكانه، قرر أن يختبئ حتى يَسقطَ الحكمُ عنه ، وأما الآخر فعرفُتُ أن زوجته وأولاده أودعوه دارا للمسنين ورفعوا ضده قضية حجر واستولوا على كل ماله، ولا يزوره أحد منهم .. وطفِقَتْ حالتي تنتقل من سيِّء لأسوأ ، تحوَّلت إلى هيكل عظمي ملقى على سرير كأنني جيفة ... أذكر تلك الليلةَ جيدًا ، نعم أذكرُها ، نمتُ فيها نومًا عمييييقا، فرأيتُ فيما يرى النائم أنني أقف على قدميّ ويدٌ بيضاء من نور تمتد نحوي تصافحني وتربت على كتفي ، ثم تمسد على صدري وقدَمَيَّ ، حتى شعرت بردَها يختلج كلَّ كِياني ، وتعجبت !! كيف أقف على قدمَيّ وهما اللتان سمَّمَتْهُما الدوالي والسُّكَّري ، فبُتِرتَا الواحدةَ تلوَ الأخرى ، استيقظتُ وأذانَ العصرِ مطمئنَّ النفس وكأنني ولدتُ من جديدٍ ، دعوتُ بماءٍ ، فاغتسلتُ وتوضأتُ وسطَ استغرابٍ ودهشةٍ من الجميع، وأخذتُ أصلي وأصلي وأصلي ، .. أنا اليوم ـ والحمد لله ـ في مرحلة متقدمةٍ جدا من التدريب على الأجهزة التعويضية لأستأنفَ حياتي .
---------؛-------؛
محمد محمود شعبان