مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

زُقَاقُ ( أَبُو عَزِيزَة )...... للأديب / محمد شعبان

اﻷديب محمد شعبان " ساعةُ القلقِ نَمْ لها تَمُرْ ، وساعة الأنسِ أَفِقْ لها تُسَرْ ، والمُستَغْنِي هَزْهِزْ له جيبَك " ... تلك الحكمةُ أو مهما تُعدُّ ربما لم تسمعها من غيري، وربما تقول في نفسك ما الذي يقوله هذا المجنون ، لكنَّها ـ على كلّ ـ صارتْ مبدأ لي في حياتي صَدّقْ أو لا تُصدّقْ .. يومَ الخميس الماضي وقُبيل العصر ـ ورَكّزْ ـ يا محترم ـ في يوم الخميس !! ـ عُدْتُ إلى البيت فوجدت الشقةَ غارقة في بِرْكَةٍ آسنة من مياه الصرف الصحي ، والبالوعة مُنْسدَّة ، وزوجتي غارقة في حَيْص بَيْص ، تصرخ في وجهي قائلة : ( سبّاك سبّاك ) اذهبْ وهاتِ ( السباك ) .. قلتُ لها :ـ اهْدَئِي اهْدَئِي سأتصل به حالا ، ولن يحضر أبدًا صدقيني .. قالت وهي تصيح : ماذا تقوووول لا تقف أمامي هكذاااااا اذهب له بنفسك وأحضره لا تأتِ بدون ( السباك ) تَصرَّفْ .. أمام صراخها ونواحها على السجاجيد المُشبّعة بالنجاسة والشقةِ المُعبّأةِ بروائح الحمام الشنيعة لم أستطع المكث بالبيت وخرجتُ مُسْرعًا ... يبدو لك أن يوم الخميس قد ضاع .. أليس كذلك ؟ (هههههه ) ... خرجت وأنا متأكد أنني لن أتحصل على أيِّ ( سباك ) لأنه أغلق محله منذ الصباح ومنشغل في جنازة عم ( مدكور الحلواني ) الذي كان قد توفي قبلَ ساعة ، وأغلق الجميع دكاكينهم وذهبوا يساعدون في تجهيزه والصلاة عليه ودفنه ... لاحظت ذلك عند عودتي ، فغيَّرتُ طريقي وتوجهت للبيت من زقاق ( أبو عزيزة ) المؤدي للبيت ، كثيرا ما أستخدمه للهروب من هذه المناسبات التي غالبا ما تأتي في أوقات حرجة جدا بالنسبة لي ، وأكون محتاجا فيها لكل دقيقة ، خاصةً مساء يوم الخميس ! ... زقاق ( أبو عزيزة ) مَمَرٌّ ضيق شاهدٌ على ظهور البيوت وخلفياتها التي تتقارب فيه ويطل بعضها على بعض ، ربما يستطيع الجار أن يناول جاره غرضًا ما مِنْ خلال شباك حمام أو مطبخ نظرًا لتقارب الشبابيك ، ممر مليء بالقمامة ومخلفات البيوت القذرة ، قد تطأ قدمك فوطةً صحية رمتها إحدى النساء بعد الاستعمال ، أو حفاضة لأحد الأطفال مليئة بالبراز والبول النتنين ، رغم كل هذا القرف يُعدُّ هذا الزقاق مهربًا آمنًا وسريعًا لي للوصول إلى بيتي ، أذكر أنني كنت الوحيد من بين أقراني ـ في صغرنا ـ الذي يختبئ هنا أثناء لعبة الاختباء حيث كان المُرشحُ للبحث عنا يأبى أن يدخل الممر ليمسك بي ، فأظل مختبئا حتى يمل ويبتعد فأخرج مسرعا .. زقاق ( أبو عزيزة ) يروي حكايا الناس لكن من الأبواب الخلفية الخفية التي لا يراها أحد ويؤكد أن لواجهات البيوت المنقوشة المطلية بأبهر الألوان والمرصعة بأبهى الحلل اللامعة البراقة خلفياتٍ وأشياء أخرى عديدة يجهد أصحابها في كتمها عن الناس .... أهذا وقته يا عم (مدكور ) ؟! ، وهل سيترك (عرابي السباك ) هذه المعمعة ويحضر ليخلصني من هذه الورطة ... ( عم مدكور ) ـ الله يرحمه ـ حلواني كان يجلس على ناصية الشارع بعربة زجاجية متحركة حلواه ليس لها مثيل كان أبي يحبه كثيرا ويقدره ، كان يُحْضِرُهُ في ختمات القرآن الكريم التي كان يجمع عليها الفقراء والمساكين من أهل الحي ويصنع لهم الثَّريدَ واللحم ، فكان يَحْضُر العمُّ ( مدكور ) بالجُبَّةِ و (القفطان ) والعمامة الحمراء فيجلس يقرأ القرآن بصوت خاشع رخيم ، ثم يبتهل .. أذكر أبي في تلك الليالي وهو مثل النحلة يدور حول الحاضرين بوعاء اللحم ويضع أمام الواحد القطعة والقطعتين والثلاث لا تجد أحدًا في هذه الليلة محرومًا أو جائعًا ، وأما الذي يعجز عن الحضور كان يُرسل له نَصيبُه إلى بابِ دارِه .. ليتَ لي مثلَ روح أبي أو عُشْرَها ، يأسر الجميع بخُلقِه الطيب وحسنِ صلته ، لا يترك واجبًا أبدا مهما كانت صلته بمن يجامله قريبا كان أم بعيدا ، صديقا أو زميلا، جارا أو معرفة ، يا طُولَ ما كُنَّا ننتظر عودته فيؤخر غدائي يخرج من عمله مرةً إلى جنازة وأخرى لعيادةِ مريض وأخرى لكذا وأخرى لكذا حتى أملَّ من الانتظار فتضطر أمي لوضع الطعام لي فآكلُ وتبقى تنتظره ... (عرابي السباك ) يعرفني جيدا ، يترك كل ما في يده ويحضر لي مهما كان .. أذكر تلك المرة التي كان فيها في طريقه لأحد زبائنه ولحقْتُ به قبل أن يصعد العمارة مباشرة ، تتصورن أنَّه تركَ الزبون وركب السيارة وحضر معي ، أنجز العمل عندي ولمَّا نزلتُ معه لأوصله لبيت الزبون قال لي :ـ أوصلني للبيت يا أستاذ والزبون ينتظر للغد .... ( ههههههه ) ألم أقل لك (والمُسْتغني هَزهِز له جيبك ) !! .. أتُراه يترك هذا الواجب من أجلي ؟ أتظنُّ ذلك ؟! .. لكنني وفي كل الأحوال لم أستطع العودة للبيت ، وإلا قامت قيامتي ـ يا محترم ـ ... ذهبتُ لشقةِ والدتي .. ليس من عادتي أن أذهب لها في هذا الوقت من يوم الخميس إلا بعد مشاجرةٍ مع زوجتي ؛ لذا استقبلتني متمتمة :ـ ( يوووووه ) .. تشاجرتما ثانية ؟ قلت لها :ـ لا لا أنا أحاول الاتصال بـ ( السباك ) البالوعة منسدة والشقة مقلوبة .. طبعا أبي في الجنازة ؟ أليس كذلك ؟ :ـ طبعا مع الرجال منذ سمع الخبر ولن يعود قبل الدفن :ـ اتصلتُ بـ ( عرابي السباك ) أكثر من مرة فلم يَرُد .. قالت لي :ـ ادخل ـ يا حبيبي ـ نم الآن واترك هذا الهاتف هنا حتى لا يزعجك أحد .. نمتُ ملءَ جُفوني حتى أيقظتني أمي قائلة :ـ ـ حبيبي .. حبيبي .. زوجتك اتصلت وقالت إن ( السباك ) مَرَّ عليكَ لمَّا رأى رنَّاتِك ، وسَلَّكَ البالوعة ، وأنا اتَّصلتُ بالمَغْسَلَةِ وأرْسَلوا عاملا وأخذَ السجاجيد ، هل ستقوم أم ستبقى ... ( هههههه ) طبعا سأقوم طالما مَّرَّتْ ساعةُ القلق ووجَبَتْ ساعةُ الأنس ... ربما تسَّاءلُ ـ يا صديقي ـ وماذا يفعلُ مَنْ لا يجدُ مكانًا للنَّومِ في ساعةِ القلقِ ؟ ... ( إمْمْمْمْ ) سنجدُ حلًّا لك ـ يا صديقي ـ لا تقلقْ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد محمود شعبان

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016