(1)
المَوتُ يُسرِعُ بالخُطَى
لِيَخُطَّ فَصلاً مِن فُصُولِ حِكايتِي
يا زائراً بِاللَّيلِ، إِرحَمْ "شَيبتِي"
يَا - مَن تَكُونْ -
اللَّيلُ مَدْعَاةُ السُّكُونْ
ما عُدتُ أَقوَى أنْ أَدِبَّ علَى الثَّرَى
خَارَتْ قُوايَ، تَقارَبَتْ مِنِّي الخُطَى،
وَتسارَعَتْ تَقتَاتُ مِن جَسَدي النَّحِيلِ..
خُطَى الزَّمَنْ
الهمُّ أَقعَدَنِي وَأَبكانِي الحَزَنْ
ضَعُفَ البَصَرْ
الوَحْدَةُ العَمياءُ تَسكُنُ مُهجَتِي
وَالشَّمسُ تُشرِقُ ثُم تَغربُ،
كَمْ تَمرُّ علَى النَّوافِذِ والشَّجَرْ
الشيخُ لَم يَشعُرْ بدِفءِ شُعاعِها
هُوَ هكَذا، مَعَ كلِّ فَجرٍ أوْ غُرُوبْ
شَيخٌ وَحيدْ
حَبِيسُ جُدرانٍ وَبابْ
شَيخٌ حَزينٌ
حَوْلَهُ هذا الضَّجِيجُ
مِنَ البَشَرْ
ذَهَبَ السُّرورُ،
فَلَمْ يَعُدْ في القَلبِ وَقتٌ للسُّرُورْ
كُلُّ الطُّيورِ تَؤوبُ نَحوَ عِشَاشِها
وَالشيخُ يَنتظِرُ الحَفِيدَ،
مَتى يَعُودْ ؟
(2)
الشَّيخُ حَدَّقَ في الصُّوَرْ
وَيدَاهُ تَقْلِبُ ذِكرَيَاتٍ قدْ مَضَتْ
لكِنَّهَا بَقِيتْ كَنَقشٍ في الحَجَرْ
فَإذا الزَّمَانُ يُعِيدُ صَوتاً مِن بَعِيدْ
صَوتاً تَوَقَّفَ فَجْأَةً..
ضَحكَةَ الطِّفلِ الحَفِيدْ
مَا زَالَ طِفلاً، مُنذُ فَارَقَهُ وَغَابْ
هُوَ لَم يَعُد،
لكِنَّما أُرجُوحَةٌ بحدِيقَةٍ غَنَّاءَ حَنَّتْ لِلِّقاءْ
وَالبَيتُ حَنَّ لسَاكِنيهْ
غابَ الجَمِيعُ، تَفَرَّقَتْ مِنهُمْ خُطًى..
أَينَ الأَحِبَّةُ حِينَما يَأتِي المَسَاءْ؟
مَا عَادَ يَجمَعَهُمْ مَسَاءٌ حَولَ مِدفَأَةِ الشِّتَاءْ
يَتجَمَّعُونَ، وَيملؤونَ البَيتَ ضِحْكاً أوْ صَخَبْ
أَطفالُهُم في البَيتِ تَمرحُ كَالفَراشاتِ النَّدِيَّهْ
طِفلٌ هُنَا، طِفلٌ هُنَاكْ
صَوتٌ هُنَا، لَعِبٌ هُنَاكْ
الكُلُّ يَجرِي في مَرَحْ
وَأَنا أَصِيحُ بِكُلِّ صَوتي
"يَا شَقِيّْ
هَلاَّ نَزَلتَ عَنِ الجَوَادْ
مَا عادَ جدُّكَ يَحتَمِلْ
أَتعَبتَنِي، ظَهرِي انْكَسَرْ
اذهَبْ لأُمِكَ تُرضِعُكْ".
دَمعٌ تَرقْرَقَ في عُيونِ الشَّيخِ في جَوْفِ المَساءْ
أَينَ الأَحِبَّةُ وَالصِّحابْ؟
في البَيتِ مُتَّسَعٌ وَلكنْ،
ليسَ في البَيتِ حَياةْ
البَيتُ جُدرانٌ مِنَ الإسْمَنتِ،
تَحفِرُهَا اللَّيالي البَارِدَهْ
تَشكُوْ القُلوبَ النَّابِضهْ
البيتُ يَسكُنُهُ الخَوَاءْ،
وَغَطَّى كُلَّ مَا فِيهِ الغُبارْ.
(3)
غَابَ الحَفِيدْ
الشَّيخُ يَنتَظِرُ المُسافرَ كَي يَعُودْ
مَا عَاد يَسمَعُ غَيرَ صَوتِ الرِّيحِ،
يَعْصِفُ في الفِناءْ
الجَمْعُ فَارَقَهُ وَأَبكاهُ المَساءْ
البَابُ يُقفَلُ، وَالمكَانُ بِلا صَخَبْ
وَلَكَمْ يَمرُّ مِنَ الزَّمَنْ
وَحَدِيقةٌ غَنَّاءُ تَهجُرُها الطُّيورُ،
فَلا غِناءَ وَلا فَنَنْ
البَردُ يَملأُ كُلَّ أَرجاءِ المَكانْ
قَدْ تُدفِئُ النَّارُ الجَسَدْ
مَن يُدْفئُ الأَوصَالَ مِن شَيخٍ قَعِيدْ؟
الشَّيخُ يُدفِئهُ الصَّخَبْ
صَخَبُ الصِّغَارْ،
صَخَبُ الأَحِبَّةِ يَلعَبُونَ وَيمرَحُونْ
الشَّيخُ يُدْفِؤهُ الحَفِيدُ إذا بَكَى،
وَإذا زَحَفْ
وَإذا مَشَى لِيَخُطَّ خُطْوَتَهُ الصَّغِيرَةَ
نَحوَ عَالَمِهِ الجَدِيدْ
الشيخُ يُدْفؤهُ الحَفيدُ إذَا امْتَطَى
وَالجَدُّ كانَ لَهُ جَوادْ
لا تُدْفِئُ الشَّيخَ الصُّوَرْ
الشَّيخُ تُدفِئهُ المَحَبَّةُ وَالسَّكَنْ
هُوَ لا يُرِيدُ مِنَ الحَياةِ سِوَى الحَنانِ،
وَبَسْمَةً فَوقَ الشِّفَاهْ
الشيخُ لا يرجُو مِنَ الدّنيَا قُصوراً أوْ مَتاَعْ
كُلُّ الحَدائقِ لا تُساوِي ضَحكَةَ الطِّفلِ الحَفِيدْ
كُلُّ القُصُورْ
كُلُّ الدُّنَا، أوْ كلُّ أَموالِ البَشَرْ
الشَّيخُ يُدْفؤهُ إذا عَادَ الحَفيدُ مِنَ السَّفَرْ
وَقَد يَعُودْ
لكِنْ مَتَى؟
(4)
الوَقتُ يَمضِي، وَالحَياةُ بِنَا تَسِيرْ
وَسُؤالُنَا يَبقَى لِمَن قَرأَ السُّطُورْ
مَنْ يَا تُرَى؟
مَن يَكتُبُ الفَصْلَ الأَخِيرَ
لِقِصَّتِي
قِصَّةِ الشَّيخِ الوَحِيدْ؟
المَوتُ .. أمْ هذا الحَفِيدْ؟
.............
شحده البهبهاني