مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

( أنا والمسكينُ الأسمر )..... للأديب / محمد شعبان


كانت المحطةُ الثانيةُ لي ذلك اليومَ داخلَ ( مكتب بريد العتبة ) بالقاهرة ... يسْهُل اكتشافُ كوني غريبًا عن المحافظة وآتٍ من محافظة غريبة هيأتي ولهجتي الشرقاوية تكشف ذلك .. جلستُ أنتظرُ اتصالَها المُرْتَقب والشوقُ يعتصرني ، أُخْرجْتُ هاتفي من جيبي بمُعَادلِ خمسين نظرة في الدقيقة، لم أهتم للعَرَقِ المصبوب من جبيني ، فأصاب شاشة الهاتف ، وعطل خاصية اللمس به ، ناهِيكم عن أنهار العرق الجارية فوق ظهري وبطني والتي أشعر بها تصب عند نطاق بنطالي تحتَ الملابس ، ثم سريعا تبرز آثارها على القميص من الخارج حاولتُ أن أجفف الشاشة فمررتها على صدري فازادات ابتلالا ، صدقا كنت أشعر ببعض العرق الجاف ، وقد استحال ذَرَّاتٍ مِلحيةٍ فوقَ جبيني ومعصمي .. الساعةُ التاسعة ، وكل الموظفين على مكاتبهم ، أخبرتْني بالأمس بوجوب وجودي داخل مكتب البريد عند التاسعة صباحا لتتصل ، فتخبرني بالطوابع والدمغات التي ستُرْفِقُها بمصَوِّغات تعييني ، كما أكددت أنها ستتصل بي بمجرد وصولها لمكتبها بمبنى وزارة القوى العاملة ،فكان ينبغي أن تتصل ـ يا صبرَ أيوب .. رحماكَ ربي ـ .. قررتُ أن أتصل بها ، فأنا لا أحتمل الانتظار ، لكن الهاتف مغلق .. الهاتف مغلق .. الهاتف مغلق .. يا ربي ماذا أفعل ؟ ... انتظرتُ حتى اتَّصلتْ بي ، حاولتُ أن أعرف منها نوع الطوابع التي تريدها لأطلبها من موظف البريد من خلال شباكه الضيق المنخفض وخلال زحمة الضجيج المرتفع الذي يعم المكان ، بالكاد يسمعني ، قالت لي :ـ ناولْه الهاتف لأخبره بنفسي .. رفض أن يتحدث إليها قال ـ وقد أرخى ظهره وكتفيه على مقعده ـ :ـ ممنوع ـ يا حبيبي ـ هيَّا أفسحْ المجالَ لمَنْ خلفك .. قالت لي :ـ دَعْكَ منه وغادِرْ المكان الآنَ وأنا سأوفر لك الطوابع من عندي بالوزارة ، بعض السعاة يبيعونها هنا ، لا تقلق .. حمِدْتُ الله وأنا أنطلق عبرَ باب مكتب البريد ذي الردهة الواسعة غير المسقوفة ، أرسلتُ نظري إلى السماء فاعترضتني أشعةُ الشمسِ وقد بدأتْ تشتد وتقترب من ساعة الذروة ، فوجدت المبنى دائريًّا متعدد الطوابق ، لحظةُ طمأنينةٍ شجعتني أن أسترخي على أحد المقاعد المرصوصة تحت مظلة هناك في أحد الأركان آخذ نَفَسِي وأجفف عرقي وأجمع أعصابي ، بعدها أنطلق إلى المحطة الثالثة إلى مبنى وزارة القوى العاملة ، حيثُ ينتظرُني ما كنتُ أحلمُ به طوالَ السنين الفائتةِ ومنذُ تخرجي من الجامعة ، فالعمل بالحكومة أضحى حلمُ كلِّ باحثٍ عن الاستقرارِ المادي في بلدي ... (آااااااه ) بعدَ كل هذه السنين ، وبعد أكثر من عشرِ سنواتٍ مضتْ على التخرج تذكَّرَتْ الحكومةُ أبناءها الذين أتعبتْهُم الأيامُ وطوتْ أحلامَهم .. كان اتصالُها في اليوم السابق دفقةَ هواء نقي لمُنخنقٍ تقْبضُ الهموم وتكاليفُ الحياة على عنقه منذُ فترةٍ ليستْ بالقصيرةِ ولا يستطيع التنفسَ ، ، أخبرتْني بكلِّ بياناتي التي سجلتُها في موقع الوزارةِ الإلكتروني ، :ـ خريجُ عامِ ألفين ؟ ، متزوج ولديكَ طفلتان ؟ ، ترغبُ في العمل بوزارة التربية والتعليم ، أو الأزهر ، أو وزارة الأوقاف ؟ .. نعم نعم كل البيانات صحيحة هي نفس البيانات التي حَدَّثْتُها أكثرَ من مرة ، كلَّ عام تقريبا أدخل لموقع الوزارة وأملأ استمارة توظيفٍ بالحكومة، ما زلتُ أذكر صوتَها الجميلَ الحنونَ وهي تقول في نهاية اتصالها :ـ أنتَ مثلُ أبنائي ، وفَّقكُمُ اللهَ جميعًا ... وأثناءَ لحظةِ الطمأنينة تلك اتَّصَلَتْ بي مرةً ثانية ، لمْ أتردَّدْ فتحتُ الخطَّ بسرعة البرق .. قالت :ـ معذرةً هل يمكن أن أطلب منك طلبًا .. :ـ طبعًا طبعًا تحتَ أمرِك ـ يا أستاذة ـ تفَضَّلي .. :ـ لستُ أدري إن كان يمكنك أم ، لكن السُّعَاةَ هنا منشغلون جدًّا ولا يتسطيعُ أحدٌ منهم الخروج من المبنى وكنت بحاجة إلى ... صَمَتَتْ بُرهةً ، فضحكْتُ في نَفْسي قائلا :ـ ألا تصبرين حتى أحضرَ إليك ، فَأُلَبِّي لك كل ما تريدين ، يا لك من موظفةِ حكومةِ حمقاءَ مرتشيةٍ .. :ـ ( إمْمْمْمْ ) لا عليكِ ـ يا سيدتي ـ ، تفضلي ، أؤمري .. :ـ لا تفهمني خطأ سأحاسبك عندما تحضر ، فقد انقطع رصيد هاتفي فجأة أثناء اتصالي بأخي ، و لا يوجد شحن معي ، وأودُّ إجراءَ مكالمة دولية أخرى كي أطمئنَّ عليه لأنه مريضٌ بالمستشفى ، هلا شحنت لي على هذا الخط رجاء .. ( أخخخخخخ ) لَهَزَني الريبُ في صدري ، لكنني دافعتُه بقوةٍ ، فهي موظفةُ حكومةٍ ، نعم هي موظفة حكومة ، وقَدْ أخبرتني بالوظيفة التي تشغلها بالوزارة، وكذلك أخبرتني بعنوان الوزارة، وبكل بياناتي على موقع الوزارة الإلكتروني ، كما أنها وصفتْ لي مكتبها بكل دقة بالدور الرابع نعم بالدور الرابع ، المكتبُ الثاني على اليمين بعد الطرقة الثانية على بابه يافطة مكتوب عليها مدير شؤون العاملين ، وقالت :ـ أو اسأل عن (مدام إبتسام ) وسيوصلونك مباشرةً ... لا لا لا شك عندي فيها ، ليست نصَّابة ... صراعٌ عنيفٌ بين الرفض والقبول ، بين اليقين والشك احتوشني للحظات، فانقشعَ ، فأجبتُها قائلا :ـ مِنْ عينيَّ ـ يا أستاذة إبتسام ـ ، لكنني لا أرى أيَّ مكتب اتصالات مفتوحًا هنا ، أصلُ إليك ـ بإذن الله ـ ، ثم أقضي لك كل ما تريدين ، أنا في طريقي ، فقط مسافة السكة .. لم تُعَقِّبْ ، فقطْ قالتْ :ـ طَيِّب مع السلامة .. قلت لها :ـ هل سأجدك في غرفتك ـ إن شاء الله ـ .. :ـ نعم نعم في انتظارك .. ربما بِتُّمْ تَشُكُّونَ في أمرها وأنا أروي لكم .. لكنني هَربْتُ مهرولا من كل هاتيكَ الصراعات وانطلقتُ وأنا لا أرى أمامي ، فتنقلتُ من شارع لآخر ومن محطةٍ لأخرى ومن حافلةٍ لآخرى ، صدقًا لا أعرف كيف وصلتُ ، لكنني وصلتُ لمبنى الوزارة ، وعند مكتب الأمن بالخارج سألتُ عن (مدام إبتسام ) مديرة شؤون العاملين ، كنتُ واقفًا بالخارج أنظرُ من خلال شباكٍ حديدي مقوسٍ عندما رد أحدُ رجلي الأمن من داخل الغرفة قائلا :ـ هل اتَّصَلَتْ بكَ أنتَ أيضًا .. :ـ نعم اتصلت بي بالأمس .. :ـ المهم هل شحنْتَ لها ؟ .. :ـ لا ، لكن كيف عرفتَ موضوعَ الشحنِ هذا .. :ـ ( هههههه ) الحمد لله أنك لم تشحن لها ، ادخل إلى مدير أمن الوزارة بالداخل عنده شابٌّ أسمر منهارٌ أحْضَرَته من الصعيدِ وشحنَ لها بأربعمائة جنيه .. :ـ أهكذا إذنْ ؟! ، لكن كيف نَفَذَتْ تلكَ النصابةَ إلى موقعِ الوزارة ؟ ، إما اخترقته ، وإما يوجد من يُمِدُّها بالمعلومات من داخل الوزارة ، وفي كلتا الحالتين مصيبة ٌ كبرى !! ، ثم الْتفَتُّ وأنا أردد في نفسي :ـ ألهذا الحد تُستباح أحلام الشباب في بلادي وتصبح موطئًا سهلًا لكل النصابين واللصوص دون رقيب أو حسيب ؟! ـ حسبي الله ونعمَ الوكيل ـ ... لكنَّكم ربما تودون أن تعرفوا المحطةَ الأولى أليس كذلك ؟ ، نعم لقد نزلتُ بها قبل أن أبدأ رحلتي تلك ـ والحمدُ لله لهذا الحد ـ ، طلبتُ من سائقِ ( الميكروباص ) التوقفَ في منتصفِ الطريق إلى محطة القطار بعدما دفعتُ الأجرةَ كاملةً مع علمي أنني سأكابد الأَمَرَّين حتى أجدَ رَكُوبةً أخرى ، لكنَّ أبي ماتَ وهو يتمنَّى أن يراني موظفَ حكومةٍ قَدَّ الدنيا ، فذهبتُ أقرأُ له الفاتحة وأبشره أنَّ أمنيتَه قد تَحقَّقَتْ ، إنما يبدو أنَّ مِنْ بين الأحياءِ مَنْ هُمْ أولى من الأمواتِ بقراءةِ الفاتحةِ لهم والتَّرَحُّمِ عليهم !! .
ــــــــــــــــــــــ

محمد محمود شعبان


التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016