لماذا يا بني الإنسانْ ؟!
لماذا لوعةُ الوجدانِ و الحسرةْ
فهذي الكفُّ قد مُدَّتْ على غِرَّةْ
لتمسحَ دمعَنا القاني ؟!
و ما لمراجلِ الذَّكرى
و هذي الكفُّ قد عادتْ
لتفتحَ صفحةً أخرى ؟!
و ما لدموعِنا تترى
و هذي الكفُّ ما كانتْ
لنا سوطاً و لا سجَّانْ
و لا حيفاً و لا قضبانْ ؟!
و ما لحلوقِنا مُرَّةْ
و هذي الكفُّ ما انْتهكتْ محارِمَنا
و لا غدرتْ بنا مَرَّةْ
و ما شقَّتْ مضاجِعَنا
و قَدَّتْ حُلْمَنا قَسْرَ
وما عبثتْ " بشاتيلا "
و لا انْهالتْ على " صَبْرَا "
و ما مكرتْ " بديرِ يسينْ "
و لا في " قبَّةِ الصَّخْرَةْ " ؟!
و ما لنفوسِنا حيرَى
وهذي الكفُّ ما امْتدَّتْ
لدسِّ السُّمِّ في أنفاسِنا الحرَّى
و لا شربتْ دَمَ الشُّهداءِ
فوقَ جماجمِ الأسرى ؟!
و ما لقلوبِنا سكرى
و هذي الكفُّ ما خرقتِ أظافِرُها
شَغافَ "محمَّدِ الدُّرَّةْ "
و ما اغْتالتْ براءتَهُ
و لا أحلامَهُ الغِرَّةْ
و ما تركتْ رزِيَّتَها بحضنِ أبيهْ
و لم تُضْمِرْ بهِ شرَّا ؟!
و ما لنُباحِنا ينداحُ في أقداحِنا سِرَّا
و هذي الكفُّ قد كشفتْ مزاعِمَنا
و جلَّتْ كلَّ ما قُلنا منَ البهتانِ و الزُّورِ
وما قالتِهُ جارتُنا " ابْتسامُ الوردِ "
عن عُقْبَى بني القِرَدةْ
و أحفادِ الخنازيرِ
و ما يرويهِ ليْ عمَّي
تِباعاً في " سويسِ " المجدِ
عن تَبِعاتِ ما فعلوهُ
- يومَ حصارِها المشئومِ -
من وأدٍ لأغصانٍ و أزهارٍ
و أنفاسِ العصافيرِ ؟!
و حتَّى ما رأتِ نفسي
على وجْناتِ عمَّاتي و خالاتي
و ما حُمِّلْنَ من قهْرٍ و تشريدٍ و تهجيرِ
و ما قد قَرَّ في رأسي
و ما أسداهُ ليْ جَدِّي
عن الأوغادِ من نُصْحٍ و تحذيرِ ؟!
فمنذُ طفولتي الأولى
أذابَ الغِلَّ في كأسي
و حدَّثني عن الصلواتِ في الأقصى
و عن ترنيمةِ الميلادِ في "القدسِ"
و أوصاني بردِّ الصَّاعِ للوضعاءِ صاعينِ
و ما قد ضاعَ في الهمسِ
و حرَّضني على العِصيانْ
و حذَّرني من الرِّجْسِ :
حذارِ ، حذارِ يا ولدي
فهذا الجِنسُ ليسَ كسائرِ الإنسِ
فهُمْ يا فِلْذَةَ الأكبادِ كالشَّيطانْ
لهُمْ عينانِ حمراوانِ إنْ رنتا
كأنَّهُما أتونا الشَّرْ
و وجْهٌ يحتويهِ الشَّعْرْ
و كفٌّ لو رأيتَ بنانَها المسنونَ
تحسبُها نِصالَ الغدْرْ
و ما لرءوسِنا تُحْنَى
و كفَّا البِرِّ و الإحسانِ
حوَّمَتا بخيرِ سلامْ ؟!
فذا غصنٌ من الزيتونِ في اليمنى
و ذي اليسرى قد امْتدَّتْ بسربِ حمامْ
و ما لغياهب النسيانِ تنسانا
و هذي الكفُّ ما أبقتْ
لنا شيئاً من الأحزانْ ؟!
فذاكَ عريسُنا النَّشوانُ في "قانا"
و تلكَ عروسُنا الميساءُ في "الجولانْ"
و حتَّى صورةُ الجنديِّ في كتبي
و ما تحويهِ من شعرٍ كراريسي
عن الإدْبارِ و الإقْدامْ
و أهلي في "أبو زَعْبَلْ"
و هذا الشاهدُ الباقي على الحيطانْ
و أمِّي حينَ تُوْقِظُني لِأخْلُصَ من كوابيسي
فتقرأُ لي المعوَّذتينِ و الإخلاصْ
و تتلو آيةَ الكرسيِّ مرَّاتٍ على رأسي
لكي أنسَى حكايةَ خالِنا المفقودِ في "سيناءْ"
و أستاذي "العَزَبْ مرسي" الذي كانتْ
طيورُ الصُّبحِ تهبطُ فوقَ شاربِهِ
و هذا الصُّبحَ حينَ أتى
بوجْهٍ شاحِبٍ مُسْتاءْ
و صوتٍ هدَّهُ الإعْياءْ
و حرَّكَ حُزْنُهُ الكرسيْ :
هَلُمَّ أيا تلاميذي
لِنُخْرِجْ دفترَ الإملاءْ
و هيَّا دوِّنوا العنوانَ وَسْطَ السَّطْرْ :
بَ .. حْ ..رُ .. الْ .. بَ .. قَ .. رِ
لِنَبْدَأْ من يمينِ الغَدْرْ
صباحَ الأمسِ قد كالتْ
طيورُ الشُّؤمِ فوقَ رءوسِ إخْوَتِكُمْ
زَرافاتٍ من الأرزاءْ
و عذراً يا أحِبَّائي
فلم نتبيَّنِ الأسماءْ
فما ألقتْهُ كفُّ الغدرِ
من أحقادِها الخرساءِ
فوقَ عِظامِها الغضَّةْ
أحال صباحَها النَّادي إلى أشْلاءْ
و ما زالتْ صفائحُ مسكِها الفيحاءِ
حتَّى الآنْ
تغطي صفحةَ الكرَّاسْ
و كلَّ مقاعدِ الدَّرسِ
لماذا يا بني جنسي ؟!
لماذا ننكرُ التَّمْييعْ ؟!
تعالَوا نحتسي الأنخابَ
فوقَ مقابرِ الحُشَماءْ
ألا ما أجملَ الخمرَ !!
فهيَّا نسبقُ العُمْرَ
و نرفلُ في خُطى التَّطْبيعْ
فإنْ لم نَسْتَطِعْ صبرَا
و لاكتْنا رَحَى التَّدْميعْ
فلا تَهِنوا
فتلكَ طبيعةُ الإنسانِ
إذْ ما قلبُهُ سُرَّ
و هذا الأحمرُ القاني على خدَّىْ
بشائرُ فرحتي الكبرى
....
محمد عباس محفوظ