مع أن شقيقتى لها ثلاثة أبناء إلا أن ابنتها الصغرى ( أسماء ) وحدها استعمرت قلبى و استأثرت بكل محبتى لأسباب لا أزعم حتى لنفسى صحة تأويلها أو القطع بها و اعرف تماماً أن علاقتى بالأطفال سيئة للغاية فلا أطيق رائحتهم فى الرضاعة و أشمئز من صراخهم و عويلهم الذى لا ينقطع ، و أدرك أننى لا أحتمل بقاء طفل بين يدى أو على كتفى دقائق حتى من باب المجاملة لوالديه أو لإظهار شعور زائف باعزازى لهم و لأطفالهم ، ( أسماء ) وحدها كسرت كل الحواجز و عبرت كل الجسور ، و شقيقتى تجزم أنى أحبها لأنها تشبهنى تماماً ، و صديقى يؤكد أن أواصر الشبه بينها و بين من كانت حبيبتى و أنا أسرح و أفكر و استبطن ذاتى لأدفع عن نفسى اتهاماتهم و لكن بلا جدوي، أضمها لصدرى و أضحك فتتعلق بعنقى و تشتمهم و تضحك لأنها جاءت لعالمى فى الوقت المناسب جداً قبيل الخروج من أزمتى الحادة التى أمتدت سنوات ، و كدت أفقد ذاكرتى للأبد ، ربما كانت رسول الحياة و بشير الأمل و الثقة فى النفس و الأدب " ربما " و لأن ( أسماء ) كانت و مازالت معلمتى و صديقتى يحلو لى أن أبدأ موضوعاً هكذا " كان سعد حين يجوع أو يعطش يمأمئ بشدة مزعجة فتسرع إليه الصغيرة ( أسماء ) بنت الربيعين ، بكل براءة تسرع إليه ظنا منها انه يناديها بلا خوف تمسك رقبته ، ثم تعتليه و حين يجرى بها تصرخ و تنادينى لكى اخطفها من فوقه ثم تعيد الكرة و هكذا بلا آخر ، حتى استيقظت يوم العيد فلم تسمع له صوتاً و أخذت تفتش عنه كل الحجرات و تصرخ فى وجهى أين ( سعد ) ؟ أين خروفى يا خال ؟ عقدان من الزمان مرا و قد تناسيت قصتى أنا أيضا مع ( سعد ) فلم أستطيع الرد أو الجواب و لم أجرؤ على قتل حبيبتى ( أسماء ) كما قتلتنى ، اتذكر الآن جيداً ثلاثة أعوام ظلت معدتى ترفض و بشدة أى زائر من فصيلة اللحوم، من السابعة للعاشرة من عمرى لم يطرق جوفى حتى السمك ( أسماء ) مازالت تصرخ فى وجهى و أنا عاجز حيالها و مازلت أبكى ، الشريط كله يمر أمامى و صدى صوته يخرم أذنى .
كان ( سعد ) صديقى و رفيقى يمأمئ بشدة فأسرع إليه بأعواد البرسيم الأخضر و حفن الذرة الجافة ثم نستأنف اللعب و الجرى فى حوش بيتنا القديم الذى مازال يسكننى و مازلت أسكنه فمنذ فارقناه لآخر و قلبى لا يتسع أبداً لسواه ( أسماء ) مازلت تصرخ و أنا جامد حيالها .
و ها جدتى فى ضحى يوم العيد تسرع إلى رفيقى و تقبض عليه ، تكتفه بكلتا يديها و تجره بعنف من الحوش لصالة جانبيه معتمة ، ثم تسلمه لأبى بدوره يسلمه لعمى يكبر بصوت مسموع " حكم عليك ربك و قدر " ، ثم يرفع يده لعلى و أبى يقلب له عنق ( سعد ) ليهوى عليها بسكين بشعة يذبحه بلا رحمة ، و روحه تتطاير أمامى و خرير دمه يصرخ بشدة و عيناه تجحظان و أنفاسه تسكن رويداً رويداً ، تسكن و هم يتضاحكون و ينسجون من حوله و يتبادلون التهنئة بالعيد المبارك.
ذبحوه أمام عينى و سلخوه و بقروا بطنه و اخرجوا أحشاءه ، و كان البرسيم فى معدته يبكى ، فتشوا عنى فى كل البيوت عند الجيران و الأقارب حتى حملونى فوق كتف أخى الأكبر من بيت عمتى لبيتنا كى أشاركهم فى آكل ( سعد ) و أنا أتقيأ و أجرى ، ثلاثة أعوام كلما اشتممت رائحة اللحوم أتقيأ و أسرع ، و فى الذكرى الثالثة لرحيل ( سعد ) و فى العيد الرابع أمسكوا بى عنوة ، و حملونى من بيت عمتى لبيتنا و أسلمونى لجدتى .
أسرعت و أمسكت بيدى و غمستها فى دماء ( سعد ) الممتزجة بتراب حوش بيتنا القديم ثم البستنى فروة و ظلت تطوف بى حجرات البيت واحدة تلو الأخرى و أبى خلفها يحمل إناء من الفخار تنبعث منه سحب البخور العتيق ، ما يقرب من الساعة يطوفان بى أرجاء البيت و يعيدان الكَرة ، و الشيخ كثيف اللحية فوق أريكة جدى الخشبية و يتلو أوراداً و أدعية و يمسك تارة رأسى و يهمس تارة فى أذنى بكلام لم أفهم حتى الآن معناه ، ثم أمرهم بأن يتركونى أنام و بعد أن أصحو سأطلب بإذن الله بنفسى .
و بالفعل فى صباح اليوم التالى استيقظت من النوم و أخذت أفتش عن جدتى فى كل حجرات منزلنا القديم و اطلب منها بإلحاح نصيبى من لحم ( سعد ) و أضحك و بدأ الكل يضحك ، و جدتى تمد يدها فىالقدر و تدعو لمولانا و تحملق فى وجهى و تضحك و مازلت أهضم و أضحك و ما زلت الصغيرة (أسماء ) تسألنى :
و تصرخ و أنا لا أستطيع الجواب ، و لا أجرؤ على قتل حبيبتى ( أسماء )
...............
حسن غريب