مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

" مكافأة نهاية الخدمة "..قصة بقلم الأديب الكبير / محمد البنا



استوى على مقعده في العربة رقم خمسة من القطار المتجه إلى القاهرة ، استرعى انتباهه عدم وجود ركاب آخرين في ذات العربة ، والقطار على وشك القيام ! ، سأل العامل المختص بالتظيف " ألا يوجد مسافرين في هذ العربة غيري ؟ " ، أجابه " هذا من حسن حظك يا سيدي ، يبدو أن مقعدك محجوزًا من فترة ، وللولا ذلك لما وجدت مكانًا فيها " ، " لم ؟ " ، " هذه العربة خُصصت لفوج سياحي روسي سيستقلها من محطة الأقصر " .
كانت العربة مختلفة في كل شئ عن العربة التي استقلها قادمًا إلى أسوان ، رغم أنها تحمل ذات الرقم ، نظيفة بما يدعو للدهشة ، دافئة في حنو ، أزيز التكييف منتظم بدون إزعاج أو إنقطاع ، والأهم لا ركاب غيره ، نفس العربة عندما استقلها في رحلة الذهاب ، كانت مكتظة بأجسادٍ جمة ، كاد أن يختنق من شدة الزحام ، لم يغمض له جفن طوال إثنتي عشر ساعة من الضجيج الذي لم يهدأ لدقيقةٍ واحدة ، وهاهو يعود خائب الرجاء ، فالشركة التي كان يعمل بها لمدة أربع سنوات هى عمر إجازته التي اقتطعها من عمله الأصلي ، قد أغلقت أبوابها وصفَت نشاطها منذ ما يقرب من خمسة عشر عامًا ، موظفة التأمينات طالبته بضروة استخراج بيان رسمي بسداد المستحقات التأمينية ، صبيحة اليوم الأول ذهب ولم يجدها ، في اليوم التالي تكبد عناء الصعود للطابق العاشر ، حمد الله أنها جالسة إلى مكتبها ، دنا منها وجلس يستجمع أنفاسه اللاهثة ، رمقته متأففة
- خير يا أستاذ ؟
- ملفي التأميني في حوزتك ، وأرغب في إنهاء إجراءات التقاعد
أشاحت بوجهها عنه ، وانشغلت في مواصلة لعب الورق العنكبوتي على شاشة الجهاز الإلكتروني ، استطردت
- شبكة النت منقطعة ، وعودتها مستبعدة اليوم ، عد غدًا
لليوم الثالث على التوالي يصعد على قدميه ، رغم توفر المصعد بالمبنى الضخم ، ولكنه مخصص للموظفين فقط ، تملأ عينيه الحسرة وهو يرى شبابًا يدلفون داخله بينما هو وقد تجاوز الستين من عمره ، لا حيلة له ولا مفر من الصعود مترجلا
- ملفك أمامي وقد تفحصته بدقة ، ويبدو أن هناك مدة قد حصلت فيها على إجازة بدون مرتب
- نعم بالفعل لقد حدث هذا منذ عشرين عامًا تقريبًا ، عملت خلالها في شركة خاصة
- المهم الآن أن تستخرج بيان رسمي من تلك الشركة بسداد المستحقات التأمينية
أجابها مندهشًا
- لقد كانوا مواظبين على سدادها ، وأقتطعوا من مرتبي ما يوازي حصتي التأمينية
نظرت إليه شذرًا
- أعرف القراءة يا أستاذ ، وأمامي تواريخ السداد أيضًا ، ولكن يبدو أنك لم تفقه قولي
صمتت لبرهة ثم أردفت في تأفف
- ملفك يا أستاذ ينقصه مستخرج رسمي بالسداد ممهورًا بختم النسر ، هل أعيدها على مسامعك مرةً ثالثة ؟!
انتشله من شروده توافد ذوو البشرة البيضاء والعيون الزرقاء إلى داخل العربة ، لمح بينهم شابًا أسمر اللون ينسل من بين أجسادهم ، متحاشيًا ملامستهم قدر استطاعته ، يتفحص بعينيه العسليتين أرقام المقاعد المثبتة أعلى الأرفف المعدنية ، توقف أخيرًا بمحاذته ، تأكد من الرقم المدون على تذكرته وقارنه بالرقم المدون أعلاه ، وضع حقيبته الصغيرة على الرف ، وجلس بجواره ، أخيرًا رزقه الله بمن يؤنس وحدته ويخفف عناء طول المسافة .
شابٌ وقور هادئ الملامح ، مهندمٌ في مظهره ، بادره متسائلاً
- من الأقصر ؟
- نعم يا أبي
أعجبته الكلمة وأثلجت صدره المثقل بضياع أربعة أعوام من مكافأة تقاعده ، أردف
- أذاهبٌ للقاهرة في زيارة أم لعمل ؟
- لا يا أبي ، أنا أعمل مهندسًا في شركة كيما في أسوان ، ولست ذاهبًا إلى القاهرة ، إلا أنني أشكر الله على أن كافأني برجلٍ مثلك يصعد معي إلى الجنة .
لم يفق من هول الصدمة ، فقد كان انفجار الحقيبة مدويًا .

.............
محمد البنا

التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016