ليلٌ وقافِلةٌ تَشُقُّ اللَّيلَ بالخُطُواتِ والحَسَراتِ والدّمَعات...
والخطوُ لا يُشقيهِ إلا الخَطوُ، والمجهولُ أفقٌ.
والصّمتُ مأساةُ الذين تَرَحّلوا نحوَ المدى المولودِ من نَزفِ الحِكاية.
في اللّيلِ يَسقُطُ كلُّ شيءٍ غيرُ لونِ اللّيلِ، والمجهولِ، والصَّمتِ الثّقيل...
في اللّيلِ تَنسَلُّ الحكايةُ من مَواطِنِها ليَسكُنَها الجُنون.
في اللّيلِ يَغدو الأفقُ نَصلاً تُلجِمُ الأنفاسَ حِدَّتُهُ، تُجافيهِ السّكينَة.
في اللّيلِ يرمي البحرُ زُرقَتَهُ، ويَفتَحُ صدرَهُ للغَيمِ،
يُلقِحُهُ سيولاً... تَغسِلُ الأرضينَ من لونِ الكَآبة.
في اللّيلِ تغدو الآهُ أحوالاً تَحِنُّ إلى مواجِعِها،
وتَهوي في حدود اللامَكان.
في اللّيلِ ينسى غيمُنا الشّرقي براءَتَهُ، ويَستَجدي الجِهاتِ الأربَعِ.
في اللّيلِ يدعوني الصّدى: كُن ما تَكونُ، وصُغ وجودَكَ من جَديد.
الأرضُ والنّارُ العَناصِرُ، فامتلِكها للحياة.
يَتَجَعَّدُ التّاريخُ، يُنكِرُ نَفسَهُ...
لتَظَلَّ تنسَلِخُ العناصِرُ عن قوانين العناصِر!
الطّينُ والنّارُ العَناصِرُ،
كُفَّ عن غَزَلِ الرّياحِ العابِرَة.
سقَطَت ملامِحُها، تَعَرَّت... مثلَ أشجارٍ تَحامَتها المَنابِت..
هَجَعَت، تُحاصِرُها الضّحالةُ، والسّراب...
اللّيلُ أيقَظَني، وكُنتُ فَكَكْتُ أحجيَةَ العناصِر.
فقَدِمتُ من ذاتي إلى ذاتي... دليلي الصّوتُ، والألوانُ...
والنّورُ الذي يجتاحُ غاياتي لِنَنجو من جحيم الشّوقِ،
والمَرساةُ ألوانٌ تَذاوَت...
لتَزيغَ عينُ الليلِ عن شَفَقي
.......... ويَغيبَ طَعمُ الشَّوقِ عن أفُقي
سأعيدُ صوغَ الفَجرِ أمنِيَةً
........ ليَطيشَ سَهمُ الموتِ عن عُنُقي
أهدي الملامِحَ سرَّ مَلحَمَتي
............ والقَبرُ يَضجَرُ من صَدى أرَقي
لن تَخرُجَ الأنقاضُ من صُوَري
............. وتَداخُلُ الألـوانِ مُنطَلَـقي!
***
ستونَ عامًا، بل تزيد...
والآهُ تجتاحُ النّشيدَ، إلى النّشيد
ستَونَ عامًا، بل تَزيد...
واللّيلُ كانَ هنا المناخُ... وكانَ ثوبَ الرّاحِلين..
ستّونَ عامًا من شُرود...
والبيدُ تَبحَثُ عن مَنافٍ للرّمالِ المُستَبِدّة.
والزّحفُ يُعجِزُ زَحفَهُ...
واللّيلُ والأشباحُ ألوانُ الحِكاية.
الحرفُ ينسى صَوتَهُ...
وتَموتُ في اللّغةِ المَعاني...
تسقُطُ الكلِماتُ في دوّامةِ الإسراعِ خلفَ الرّكبِ...
نمضي تحتَ جنحِ اللّيلِ...
والأبعادُ تولَدُ من عُرِيِّ الوَعدِ من ثِقَةِ اللُّغة.
والرّيحُ تَستُرُ عُريَها زَحفًا، وتَعوي!
في ارتِقابِ اللّيلِ تَمضي، كي تَعودَ بلا قِناع...
في اللّيلِ تَجتاحُ العَناصِرُ بَعضَها،
والأفقُ يَغدو وَحدَهُ المَنفى لأسرارِ الرّموز:
- "طينٌ بلا مَطَرٍ، ودَمعٌ سالَ من أفُقٍ، ولونٌ يَستَبِدُّ بهِ الغروبُ،
وأمنياتٌ... تسقُطُ الكلماتُ فيها والحُروفُ،
وأغنياتٌ للسُّدى، دوّامةٌ نَبَتَت على شَرَفِ المَباكي...
والمواعيدُ التي مرّت كما الأشواقِ، لم تَشعُر بها الصّحرا،
ولم تَحفَل بما يوعى.... وظَلَّت أغنِياتٌ للسّقوط..."
***
في اللّيلِ يَسقُطُ كلُّ شيءٍ... كلّ شيءٍ يُستَباح!
في اللّيلِ يَقتَحِمُ الجَناحُ من العمى شَبَحَ الجَناح...
في اللّيلِ تُعلِنُ خَيمَةُ الأزمانِ حِكمَتَها، وتَعتِزِلُ النّواح.
- لا ما استراحَ من ارتَضى بالصّمتِ يومًا أو أراح..
- لا ما استَراحَ من ارتَضى بالذّلِ يومًا أو أراح..
***
ستونَ عامًا والجِراحُ تئِنُّ من وَقعِ الجِراح..
ستونَ عامًا والعَناصِرُ تُستَباح:
- الطّينُ يَستَلقي على لُغَتي..
- الموتُ يَسبِقُني لِخاصِرَتي..
- اللّونُ يُنكِرُني كَذاكِرَتي..
- الأفقُ يَنساني على شَفَتي..
- والكلُّ يمضي للغروب..
***
في اللّيلِ يَسقُطُ كلُّ شيءٍ غيرُ وَقعِ خطى الرّحيل.
في اللّيلِ ينتَصِفُ الغليلُ من الغليل.
في اللّيلِ يحتَضِنُ القتيلُ رُؤى القَتيل.
في اللّيلِ ينسَلُّ العَجَب:
عكا ثُغورٌ من عَتَب
يافا قُصورٌ من تَعَب
حيفا مَواسِمُ من غَضبَ
والقدسٌ يَسكُنُها العَجَب...
***
في اللّيلِ يسقُطُ كلُّ شيءٍ، غيرُ أزمِنَةِ السّقوط
والأفقُ يَغدو سطوَةَ الأيامِ تبحَثُ عن وجودي!
وهناكَ يا وَجَعي تَموت!
ستونَ عامًا، بل تَزيد..
واللّيلُ كانَ هو الفصولُ، هو العَناصِرُ، والحُدود..
ستونَ عامًا... بل تَزيد..
راوَدتُ قلبَ الرّيحِ عن نَزَواتِها...
ومَضيتُ حيثُ الرّيحُ تَمضي، والزّمانُ يصيرُ صَوت!
في اللّيلِ يُنتَزَعُ الطّريقُ، وتَستَميلُ الرّيحُ حيرَةَ شارِدٍ،
ويَشُلُّ بردُ العَتمِ لهفَةَ عاشِقٍ،
ويصيرُ صوتُ الحُلمِ خطوَةَ عائِدٍ،
يمتَصُّ لونُ الصّمتِ غيمَ الأمنيات...
في اللّيلِ يَسقُطُ كلُّ شيءٍ غيرُ لونِ الخوفِ، أنفاسُ الرّدى...
صَحراءُ، يا صحراءُ، يا ثوبَ المدى...
هاتِ امنحيني رَملَكِ العاتي لأخرُجَ من تَضاريسِ الغَضَب
موتٌ، وأمنيَةٌ تَشَظَّت، وارتِحالٌ للمَجاهيلِ العتيقةِ،
وانبِعاثُ الآهِ من كَهفِ السُّدى،
ومرارَةُ الأيامِ تسخَرُ من مواجِعِنا،
واللّيلُ يَمنَحُنا مَفازِعَنا، وتُنكِرُنا الوُعود...
صحراءُ، يا صَحراءُ، يا أمي
........... كيفَ السَّبيلُ وصَدرُكِ الغُربَة
الرّيحُ صوتُكِ، والصّدى هَمّي
............. يبدو بعيـدًا، والنّـوى كُربَة
ليلٌ غدا يقتاتُ من وَهمي
.......هل كُنتِ لي، أم زِدتِ بي نَكبَة؟
***
ستونَ عامًا، بل يزيد...
واللّيلُ يُسعِدُهُ اقترافُ تَرَحُّلي، والأهُ تصرُخُ في المدى:
- "طولي قليلاً زفرَتي.. طولي قليلا
طولي لعلَّ اللّيلَ يلبِسُ غُربَتي، ويصيرُ نيلا
طولي لعلَّ صدى المدى يُهدى إليَّ بنكبتي صَبرًا جميلا
طولي، وغَذّي الدّهرَ مِن وَجَعي، لعَلَّ الوَيلَ يهجُرُني قَتيلا
طولي قليلا،
تسقُطُ الأسماء، والأوراقُ، والأعراقُ، والأعرافُ، والأسرارُ،
والأنصابُ، والأعتابُ، والأعصابُ، والأبوابُ، والأبواقُ، والأعناق..."
ويصيحُ من خلفِ المدى شَفَقي...
خرج الصّباحُ على الصّباحْ... ما أظلمَ الغُربَة!
المجـدُ عهـدٌ يُسـتَباحْ ... والكلُّ في كُربَة
تحنو الجراحُ على الجراحْ... في حَمأةِ النَّكبة
واللّيلُ يغدو في الكروبِ وِشاحْ...
والصَّمتُ يغدو للأسيرِ جَناحْ...
والدّهرُ يغـدو للمآسي ساحْ...
ويزيدُني نَكبَة
................
... صالح أحمد (كناعنه)...