ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
" إياك إن سألك أي مخلوق كان أن تقول له أبي ( سباك ) ، قل أبي مقاول ، هل فهمت " ... كان الرجل يعمل في مجال التركيبات الصحية ،( سباك ) على أعلى مستوى ، ويعمل تحت يديه عشرات من الفنيين المتخصصين في ذات المجال ، لكنه ـ كما سمعتَ ـ وضع ابنه في مكان بعيييييد جدا ، وعزله عن مهنته التي عاش ومات عليها آباؤه وأجداده مِنْ سابع جَدّ ، كان يصل الأمر حد الضرب إن لاحظه مرة في موقع العمل ولو كان واقفا بعيدا بمحض فضولٍ ينظر لنا أثناء العمل ، تجد ( الحاج أحمد ) مندفعا نحوه قائلا في غلظة :ـ ما الذي أتى بك ـ يا ولد ـ إلى هنا ؟ ، وكيف عرفتَ المكان ؟ ، :ـ أبي لقد سألت عنك في المكتب ، واااا ! :ـ اغرب عن وجهي الآن وإن أردت شيئا اتصل بي بالتليفون ، تعرف رقم المحمول أليس كذلك ؟ ، اذهب حالا ...
لقد أراد الرجل أن يجعل من ابنه شخصا آخر غير الذي تربى هو عليه ، كان يقول :ـ لا أريد أن يخرج ابني ( سباك ) مثلي ، أريده ( ااا ) ... :ـ لكنكَ يا ( حاج أحمد ) مقاول تركيبات صحية كبير ومعروف ، وتحصل على مقاولات كبرى ، وترسو عليك مناقصات حكومية ، وربما تحتاج أن يصير ابنك سندا لك في يوم من الأيام ... :ـ لا لا لا ، بل أريده أن يحصل على الشهادة العليا وحسب ، والمال كله تحت رجليه ...
لم تعجبني وجهة نظر ( الحاج أحمد ) يومًا ، فأنااا ! ، هل تعرفون من أنا ؟ ، أنا من سيحكي لكم تلك القصة ، وأنا شخص مختلف تماما عن ( الحاج أحمد ) ، وأنا مع مجانية التعليم في مراحله الأساسية ، وضد مجانيته فيما دون ذلك إلا لمن يُثبت تفوقا يستحق المجانية له ، وأنا من يقول دائما " الذي لا يثبت كفاءة في مجال التعليم ، فليكتف بـ شهادة متوسطة ، ثم ليخض غمار العمل في أي مجال يتقنه ، فالبلد في حاجة ماسة الآن لليد العاملة من فئة الفنيين أكثر من حاجتها لفئة حملة الشهادات العليا الذين يتخرج أكثرهم أميين ... وليت ( عمر ) ابن ( الحاج أحمد ) فلح ، فلولا أنه ارتاد التعليم الخاص لصارت فضيحة درجاته وربما رسوبه بجلاجل ، وتلك سلبية أخرى من سلبيات المدارس الخاصة التي تُبَدّي المصلحة الاستثمارية على مصلحة التعليم فتخرّج للبلد في كثير من الأحيان منتجا غير صالح ، يحصل على جل شهاداته أو كلها بالفلوس ، وإن لم يفلح الأمر هنا اشترى أي شهادة من أي جامعة في الخارج ... وظل ( عمر ) على هذه الحال حتى تخرج في إحدى الجامعات الخاصة بعد أعوام أنفق فيهن ( الحاج أحمد ) ألاف الجنيهات ، وإليك تلك المفاجأة ، ففي اليوم نفسه الذي ظهرت فيه نتيجة الشهادة العليا لـ ( عمر ) مات ( الحاج أحمد ) وترك لـ ( عمر ) ثروة كبيرة جدًّا ، لكنَّ الوقت كان قد فاااات ؛ لأن ( سي عمر ) لا يعرف الفرق بين (ماسورة المَيَّه ) و ( عود القصب ) .. نعم ربما يبادرأحدكم الآن فيقول لِمَ لم يبدأ بإدارة تلك الأموال ؟ بعد والده ... صدّقني لقد فعل ، ولم يأل الفتى جهدا ، لكنه فشل فشلا ذريعا ، فطائفة العمال والفنيين تحتاج لمتابعة دائبة وإدارة صارمة وعينٍ يقظة بدون أجفان ، وتلك أشياء تُكتسب بالخبرة على مرّ الأيام ، وللأسف لم تتوفر لـ ( عمر ) ، ناهيك عن حيتان السوق ، السوق ذو القلب الميت الذي يتربص فيه القوي للضعيف فيدهسه ويزيحه عن طريقه بلا هوادة.
وااااه ( عمر ) المسكين ، لم يصمدْ عامًا واحدًا ، قضاه كلّه في خسائر فادحة ومناقصات لم تنجز وغرامات وسرقات ومكايد ، كلها كانت لَكَماتِ قوية لم يحتملها عوده اللين ، فالسوق لا يرحم ـ يا عمر ـ أصحابَ الأيدي الناعمة الذين قضوا أهمّ أيام عمرهم مغموسين في اعتمادٍ كلّي على آبائهم ، وفجأة يجدون أنفسهم في معترك حلبة صراع طاحنة ، وكم من ( عمر ) في بلادي !! ... لكن دعوني الآن مع هذا ( العمر ) المسكين ، وقد التهمه السوق وأوقعه ، ولم يُسَمّ عليه أحد ، صفَّى شركة أبيه التي ورثها عن أبيه عن جدوده ، وهام على وجهه ... ( عمر ) هذا ـ لا شك ـ خطأ أبيه ، الذي لم يسمح له يومًا أنْ يمسك مطرقة أو يقف على آلة ( القلوظه ) ، أو يتعلق على ( سقاله ) .. نعم أوافق أيضا من قال ربما ( عمر ) ضحية منظومة تعليمية قاصرة ، فلقد كان يعرف عن ( الكابتشينو ) أكثر مما يعرف عن ( أنواع خبر كان ) ، أو أبسط قوانين ( الميكانيكا ) ... تشارك ( عمر ) وأحد أصحابه في مشروع مقهى وفشل المشروع ، ثم تشارك وآخر في مطعم ، وفشل أيضا .. ألم يكن أكرم لك ـ يا ( عمر ) ـ أن تكون فنّيا كأبيك من بادئ الأمر وتكتفي بشهادة متوسطة بدلا من أن تصبح كَمًّا مهملا وسط أكوام حمَلة الشهادات العليا العاطلين ؟؟ .. واستمر حال ( عمر ) هكذا من فشل إلى فشل ، حتى ظهرت ( فاتن ) في طريقه ذات يوم وهو يقود سيارته ، نظر إليها متهللا مبتسما وهو يحرك شفتيه باسمها ، لكنها تجهمت في وجهه ، حتى إذا ما اقترب منها التفتت عنه واختفت بين الضباب ، واستيقظ ( عمر ) وهو يردد اسمها :ـ فاتن فاتن ، ما هذا ؟ ، أكان حلما ـ يا عمر ـ ؟! ، نعم كان حلما ... في حقيقة الأمر هي لم تظهر ، بل كانت صورتها أمامه طوال الوقت ، ( فاتن ) ابنة أحد الفنيين الذي كان يعمل لدى أبيه فترة طويلة ، ولمَّا قام ( عمر ) بتصفية شركة أبيه طلب (عم إسماعيل ) والد( فاتن ) أن يشترى عدة ( السباكة ) كلَّها ، ووافق ( عمر ) دون مقابل نظير فترة عمله الطويلة مع أبيه وإخلاصه ومنزلته الخاصة منه ، كما أن ( عمر ) كان معجبا جدا بـ ( فاتن ) في تلك المرات المعدودة التي شاهدها فيها مع والدها في مواقع عمله ترتدي البنطال وغطاء الرأس ، وتعمل ويدها بيده وسط الفنيين والعمال مثلهم تماما، ذلك كان في مرحلة عمرية ما ، ثم انشغلت البنت في دروسها حتى تخرجت في كلية الهندسة ، وأصبحت تُشرف على مواقع الإنشاءات ، وتطمئن على سير العمل لصالح كبرى شركات المقاولات ، وكثيرا ما التقت أباها في مواقع العمل فيتبادلان التحايا :ـ أعانكِ الله يا ( باشمهندسه ) ... :ـ سلمتْ يمينُك يا ( أسطى إسماعيل ).. والرجل فخور بابنته النشيطة ، وهي لا تخجل من عمل والدها .... ( فاتن ) ـ لا شك ـ ثمرة جهد أبيها سنين طوال حرم نفسه من كل متع الحياة لتتخرج ابنته الوحيدة عضوًا نافعًا لنفسها ولبلدها ، طالما تَباهَى الرجل بتفوق ابنته التي لم تحتج يوما لدرس خصوصي ... وأما ( عمر ) فبقي عاطلا ، وانتقل للعيش في شقة صغيرة هي آخر ما فضل له مما تركه له أبوه ، بعدما ضَيّعَ ـ أوبالأحرى ضُيِّعَ ـ كلّ شيء ، ، أموالا وعقارات و... ، وانفض من حوله كل أصدقائه النفعيين وتنكروا له ، لكن ربما فضل لأحدهم قلبٌ ينبض ويحس بما آلت له حالته ، فكان يرسل له مظروفا شهريا به بعض النقود بالكاد تكفيه ... فتح البابَ على قرعٍ أيقظه من سبات عميييق ، فوجئ بـ ( فاتن ) :ـ فاتن ؟! ، :ـ نعم ( فاتن ) ـ يا ( عمر ) ، ألم تفق بعد ؟ ، حتى متى ستظل هكذا ؟.. ، :ـ طيّب ادخلي ، لا يصح أن تقفي هكذا .. ، :ـ لا ، أنا في انتظارك .. استيقظ فوجد نفسه ما زال في السرير :ـ كان حلما؟ ، نعم كان حلما هذا أيضا ـ يا عمر ـ وينبغي أن تفيق ، مات أبوك ، ولم يبق لك شيء .... للحق هو لم يقصر ـ كما قلتُ ـ ، حاول ، ثم حاول ، ثم حاول ، وجهد قدر خبرته المنعدمة ! ، كان ينبغي لـ (عمر ) من هزة ـ أو بالأحرى ثورة ـ قوية توقظه ، ومن ثَمّ سند قوي يدعمه ويوجهه ، لذا ظهرت ( فاتن ) مرة ثانية في حياته ، وإن كانت حلما ، لكن من الأفضل أنها ظهرت ! ... استلم خطابا يبلغه أنه تم قبوله للعمل تحت التدريب في إحدى الشركات كمعاون ( سبّاك ) ، لم يصدق ما يقرأ :ـ ماذا ؟ ، أنا لم أرسل أي طلبات توظيف ، تُرى مَنْ فعل هذا ؟ ، أم أنَّها دعابة من أحد الأصدقاء ؟ ، لكنها دعابة قذرة .... مزق الخطاب ، وتجاهل الأمر ، ثم فوجئ بعد يومين باتصال تليفوني من ذات الشركة التي أرسلت الخطاب :ـ الأستاذ عمر ، :ـ نعم ، مَنْ معي :ـ أتحدّث إليك بخصوص طلب التوظيف ، لنذكّرك بموعد المقابلة غدًا الساعة التاسعة صباحا بمقر الشركة ( بناية رقم خمسة وعشرين ، شارع رقم واحد ) ، رجاء عدم التأخير .. :ـ لكن ـ يا سيدتي ـ أنا لم ( اااا ) ، مرحبا ، مرحبا !! ، أمر غريب حقا ، ما الذي يحدث ؟! ، لم تنتظر حتى أستفسر ... أتُراها دعابة فعلا كما ظن ( عمر ) ؟! ، أم أنها حيلة ورسالة أكثر منها دعابة ؛ للفتِ نظره أن ما فاته ربما يمكن أن يلحقه الآن ، وأن هناك فرصة متاحة ليفعل ما كان يحب ، وما كان يشرئب له بعنق الفضول ، ويخاف من تعنيف والده له ، أضحى الآن متاحا ولن يقف أحد أمامه ، فانهض ، ولب النداء ... طفق يبحث عن الخطاب الممزق ليتذكر العنوان ، لم يجده ، :ـ أين هذا الخطاب ؟ لقد كان هنا ، لم تُقَمّ الشقة ،منذ يومين ، أين ذهب هذا الخطاب ؟ ، ويلي إن كان ما يحدث حلما آخر ، العنوان ! العنوان ! نعم ( بناية رقم خمسة وعشرين ، شارع رقم واحد ) ... لم يُكذّب ( عمر ) خبرًا ، وذهب للعنوان :ـ نعم هو ذات العنوان ، ها هي ذات الشركة ... لكنه لمَّا دلف وتحدث لموظفة الاستقبال قالت :ـ عفوا ليس لك أي بيانات عندي ، ولم نرسل أي خطابات باسمك :ـ أنا قلت إنها دعابة ، عموما أشكر حضرتك ، سلام ، :ـ لكن ـ يا أستاذ ـ الشركة في حاجة فعلا لمتدربين ، ويمكنك أن تجري مقابلة الآن إن أردت ، :ـ ها ، صحيح ؟! ، طبعا طبعا ، أين ؟ .... أجْرَى ( عمر ) المقابلة ، وتم قبوله ، وقضى فترة التدريب ، هل تعرفون من الذي قام بتدريبه ؟! ، أحسنتم ، أنا ( الأسطى إسماعيل ) ، وهل هناك غيري أوأفضل مني لتدريبه ، لقد مكث ( عمر ) المسكين كل تلك الفترة تحت عيني ، وانتظرت كل تلك الفترة حتى نفد كل ما معه من مال ، وكان لابد أن يتخلص من كل ما تركه له أبوه ، ويبدأ من جديد ، ويعتمد على نفسه ، كما كان ينبغي أن يبدأ مساعدا ، ويأخذ الطريق من أوله ، وهذا ما تعبتُ في توصيله لـ ( الحاج أحمد ) ـ رحمه الله ـ ، لكنه كان يعارضه بشده ، فأحب أن يورثه المال دون الخبرة ، كاد يطردني ذات مرة عندما ألمحت له فقط أن مستقبل ( عمر ) أفضل ، في العمل معنا ، لكن ( اااا ) ـ الحمد لله ـ ، أصبح ( عمر ) فنيًا يعتمد عليه ، وصاحب مكتب ذي شهرة لا بأس بها في مجال التركيبات الصحية ، وتحت يديه فنيون كثر ، المال ! ، بالطبع تسألون عن المال ؟! ، لقد اعتبرتُ ( عمر ) شريكًا معي بعدّة ( السباكة ) التي بدأتُ بها عملي الخاص بعد وفاة (الحاج أحمد ) ، وادخرت له نصيبه غير منقوص ،فهو ابن سيدي ، ولم أستطع التخلي عنه ، وأما عن المظروف الشهري ، فلم يكن مني ، لقد عرضت ( فاتن ) مساهمتها ، وأنا وافقتها ، لكن ذلك أبقته سرا لم تحب (فاتن ) أن نطلعه عليه ، طلب ( عمر ) يد ( فاتن ) للزواج ، وبالطبع وافقنا لأنه أصبح الآن رجلا نافعا يعتمد عليه ، وطبعا الخطاب والمُهاتفة كانتْ من تدبيرنا !! ..
ـــــــــــــ
محمد شعبان