مجلة حـــــروف من نــــــــور مجلة حـــــروف من نــــــــور

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

من أجل ابتسامة ( ضاحي ) للأديب المبدع / محمد شعبان


" بعضُ تصرّفاتنا لا يمكن أن نُخضعها للمنطق ، ولو حاولنا 
لفشلنا ، ولضيعنا الكثير من الخير ، أو ربما توقف دولابُ الحياة 
تماما عن العمل " ..... أحتفل اليوم بذكرى زواجي الثانية مع 
زوجتي الحبيبة وابنتي الغالية في جو من الدفء والغبطة ، لم 
يكن يظن إنسان ممن يعرفونني ـ قبل عامين من الآن ـ أن مثل 
هذا اليوم كان سيأتي ...
أذكر تماما ذلك اليوم لمَّا دخل ( سكرتير ) المكتب عندي مهرولا 
وهو يقول :ـ جميلة ـ يا أستاذ ـ جمييييلة ، :ـ مَنْ هي ـ يا تَعِسَ 
الرجاءِ ـ ؟؟! ، :ـ زبونة ! زبونة في غاية الجمااال !! ، :ـ وماذا 
تنتظر ـ يا غبي ـ أدخلها حالا ، :ـ حاااااالا ـ يا زعيم ـ ... كانت 
تلك الجميلة آخر مَنْ التقيت من الزبائن ذلك اليوم ، واستحقت 
تأخير انصرافي لساعة إضافية ، ولعلَّه من تصاريف القدر الذي 
ساقها لي تلك الليلة لخير أدركتُ أثرَه فيما بعد ... لا لا ، ليست 
هذه الجميلة مَنْ تزوجتُها ، الجميلة ذات عينين نجلاوين ، ولها 
قصة مختلفة ، ثم إنَّ زوجتي ـ للحق ـ أجمل بكثير !! فعلا فعلا 
دون نفاق زوجتي أجمل بكثير ....
كان أول لقاء لي مع أي عميلة ، هو الفيصل ، بعدها أقرر إن 
كنتُ سأعمل بنفسي على القضية ، أو أحيلها لأحد زملاء المكتب 
، أو ربما رفضها من الأساس ، وكوني الرجل الثاني في المكتب 
يخول لي كثيرا من الأمور ، وشحيحاتُ الجمال بارداتُ الشعور 
طبعا تُحَلْنَ مباشرة لأي زميل دون المرور عليّ حتى ، فلم تكن 
لي روح لمثل هذا النوع من النساء ، كثير من القضايا أكتفي 
بإعطاء التكييف القانوني لها وإبراز ثغراتها ، ووضع الحلول ، 
ثم يقوم الباقون بكتابة المذكرات وحضور الجلسات ...
بالفعل كانتْ جميلة ، بل منْ أجمل مَنْ شاهدتُهن في حياتي ، 
بدأتْ تحكي قصتها مع زوجها ، والغريب أنها لم تذمه ، أو تذكر 
عيبا واحدا فيه ، بل كانت تقول وهي تذرف الدموع :ـ لكن والله 
طيب ـ يا أستاذ ـ وابن حلال ، ولو طالَ قطعةً من السماء 
لأحضرها لي ، وأنا ما زلت أحبه ـ والله أحبه ـ ... حسَسْتُ فجأة 
كأني طبيب نفسي وهي تحكي لي مشكلتها ، بقي فقط أن تتمدد 
على ( الشيزلونج ، هههههههه )... قاطعتُها قائلا:ـ عفوا سيدتي 
ما المشكلة بالضبط ؟، أتريدينني أن أكيّف لك قضية بمعرفتي ؟ 
... قاطعتني بسرعة قائلة :ـ لا لا أنا لا أريد إيذاءه أبدا ـ يا أستاذ 
ـ ، :ـ ( إممممم ) حيرتني حقا معكِ .. ، :ـ ـ يا أستاذ ـ أنا لم يعد 
عندي صبر على رؤيته وهو يحترق أمامي ويذوى من أجل 
الجميع ، وتساءلتُ ما العمل إذن إذا ما رزقنا بطفلٍ ؟ كيف 
ستصبح شكل حياتنا ؟ ، وهو ينفق أكثر من ثلثي راتبه الحكومي 
وراتب عمله الإضافي كاملا على أب مسن لا معاش له ، أو 
تأمين صحي يساهم في علاجه ، وأخيه الذي يدرس الطب 
ويحتاج لمصاريف مُتلَّلَة ، وأختِه أيضا تخرجت حديثا من 
الجامعة ولا تعمل، وهو يرفض عملها بشدة ، ويعتبر نفسه 

مسؤولا عن سعادة الجميع وراحتهم ، يعني بصريح العبارة ـ يا 
أستاذ ـ هو فاتح بيتين ، ونحن نسكن بالإيجار وما يتبقى من 
راتبه لا يكفينا ، بالفعل لا يكفينا راتبه ، وهم يستحقون 
المساعدة ، نعم ، أنا أدرك تماما استحقاقهم المساعدةَ ، أريد 
الطلاق فقط لأني أشعر بعبْئِيَّتِي عليه ، رغم أنه لا يشتكي ، 
لكنني أشعر به ، فكَّرتُ في العمل لأساعده ، ورفض ، فكَّرتُ في 
الانتقال للعيش في شقة أصغر وبإيجار أقل ، واكتشفت أن شقتنا 
أقلهن إيجارا بالسوق ، فكَّرتُ في ترك الشقة والانتقال لبيت 
إحدى الأسرتين أسرتي أو أسرته، وتبين أنه حلّ مستحيل فكلا 
الشقتين بالكاد تكفيان من فيها ، و " المشرحة لا ينقصها أموات 
"!! ، ولم أجد سوى الطلاق ويعود كل واحد منا لبيته ، لكنني 
اكتشفت أيضا أن هذا الحل مستحيل ؛ فعشقه لي منعه من 
تطليقي ، فتركت له المنزل ، وعدت إلى بيت أمي ، وكل ذلك ـ 
والله ـ من أجله فقط ، وهو يرفض الطلاق ، ويأمل أن يَحِلّ فرج 
قريب ....
( يااااه ) ، تتصورون ؟! لأول مرة ـ منذ عملتُ بهذه المهنة ـ 
تلفتُ نظري قضية كهذه ، ومُتْعِبٌ حلها ... ما فهمته ، وأثبتته 
الأيام بعد ذلك ـ أن هذه الجميلة تضحي من أجل مَنْ تُحبه بآخر 
ما تستطيعه ، و" الكيّ آخر العلاج " ! ، ( إممممم ) ! ثم كان 
من الممكن جدا استخدام أسلحة الأنثى معه ونفيُه عن عائلته ـ 
إن أرادت ـ ليصبح هو وحبَّه ماله ووقته وحياته وكل شيء ملكا 
لها ، لكن يبدو أن خلف هذا الوجه القسيم والعينين الساحرتين 
والقد الفاتن قلبا يسع الكون كله رحمةً وحنانا ... نعم نعم ، 
للحقّ أشكر الأقدار التي ساقت تلك الجميلة لي هذه الليلة .... 
إذن القصة لزوجين عاشقين مخلصين في حبهما ، تزوجا عن 
حب ، لكن الواقع المرير أبى إلا تدمير هذا الحب ، وكلَّ ما بنياه 
من أحلام .
كنتُ لأحيل قضية كهذه لأحد الزملاء بالمكتب حتى وإن كانت 
لجميلة كتلك ، أنا أحب اللواتي يشتكين لا من ضعف ذات اليد في 
أزواجهن ، وإنما من ضعف أشياء أخرى !! ، فهؤلاء هنَّ من 
تشغلنني ، وتعجبنني ، وتَسْهُل إقامة علاقة معهن و ( ااااا ) !! 
...
هذه الجميلة بالذات عزمتُ على حل قضيتها بنفسي ومساعدتِها 
، واكتشفت أنها كانت نقطة تحول جذرية في حياتي ، فأنا منذ 
ثلاثة أعوام تقريبا ـ قبل لقائي بها ـ تخرجتُ في كلية الحقوق 
(جامعة بورسعيد) ، ومن وقتئذ وأنا أعمل لدى هذا المحامي 
الكبير ، وأتحصل على راتب كبير ، وعمولة ممتازة على كل 
قضية مُنْجَزة ، الأمر الذي جعلني لا أفكر أبدا في الانفصال عنه ، 
لأفتح مكتبا خاصا بي ، فعنده أصبحتْ لي شهرة لا بأس بها ، 
ولي مكانتي المهنية بالمكتب ، والتي يحسب لها ألف حساب ، 
ولا تمر قضية بالمكتب دون أن أضع النقاط العريضة لحلها ، ولا 
قضية واحدة !، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط ! ، كما أن تعدد 
القضايا والمشكلات وكثرتها !! جعلت مني محاميا خبيرا بصيرا 
بكل خبايا القانون وثغراته ، كل ذلك في فترة وجيزة جدا .. كلمة 
أذكرها لأستاذي الكبير عندما قال لي :ـ " يا بني مهنتنا لا 
مواسم لها ، هي مثل الأكل والشرب تماما " .. ، وصدَق فعلا 
وقولا ، فلا أستطيع أن أحدد وقتا معينا من العام تقل فيه القضايا 
والمشكلات ، هي في ازياد مضطرد ، وأصبحتُ متفرغا لقضايا 
الشقراوات والحسناوات اللائي تبحثن عن صدر حنون وكلمة 
تربت على قلوبهن المكلومة ، ووقت المكتب كان لا يسمح 
بالكثير ، فكنا نكمل أحاديثنا ، و ( ااااا ) الأمور الأخرى في 
أماكن أخرى !! ، أعترف أنها كانت نقطة ضعف فيّ ، لكن ( 
هيييييييه ) ما باليد حيلة ....

من أجمل أوقات اليوم ، بل أجملها على الإطلاق تلك التي 
أقضيها على العَبَّارة (المعدية ) بين ( بور فؤاد ) ، و ( بورسعيد 
) ، أترَجّل عن السيارة ، وأطلق لناظريّ العنان في عرض القناة 
الهادئة ، وطولها اللامتناهي ، وفي السماء الزرقاء الصافية ، 
والسحائب البيضاء النقية ، ثم يعانق أخيرا ابتسامة ( جلال 
الضّاحي ) سائق ( المعدية ) وهو يجلس في مقصورته المرتفعة 
والمُشْرِفة على كل الاتجاهات ، ويرى ما لا نستطيع رؤيته ، 
ويتابع بمهنية دقيقة حركة السفن الغادية والرائحة في الممر ، 
وإلا حدث ما لا تحمد عقباه ، ، سمح لي مرارا بالصعود إلى 
مقصورته ، والاستمتاع بالمنظر من أعلى ، ( ضاحي ) شابٌّ في 
الثلاثينيات من عمره بخفة ظله يتحدث في مكبر الصوت وكأنه 
قائد طائرة ( إير باص ) قائلا :ـ صباح الخيرااااات ، (الكابتن 
جلال الضاحي ) يحييكم ويتمنَّى لكم رحلة ممتعة ، على السادة 
ركاب ( المعدية ) الابتعاد عن البوابات ، وربط أحزمة الأمان 
استعدادا للإقلاع ، ( ههههههه ) ابتسمْ ـ يا أخي ـ ، ابتسمي يا 
أختي ، ولا تسمحوا للهموم أن تعبث بتقاطيع وجوهكم الجميلة 
... كان الكل ينصت لتعليقاته ونداءاته اللطيفة الرشيقة ، 
ويبتسمون ، يضحكون ، ويرسلون له إشارات التحايا ، الكل 
يعرفه ويحبه ، وكنت أقول في نفسي :ـ ليت كل سائقي المعديات 
، وكذلك سيارات الأجرة يتعلمون منك يا (ضاحي ) كيفية 
استدراج البسمة إلى الشفاه العبوسة .. مهارةٌ فعلا ، لا أدري 
كيف اكتسبها هذا (الضاحي) ؟! ، والذي ربما يضم صدره هموما 
أكثر من هموم كل البشر الذين يُعَدّيهم كل يوم ، هذا ما كان 
يعجبني فيه حقا ، قدرته عجيبة في جعل الناس تحب الدقائق 
البسيطة على متن ( المعدية ) كل يوم ، صارت ( المعدية ) به 
عالمًا جميلا هادئا نااااائيا جدا عن عالم البَرّ الشرس المكتظ 
بالمنغصات والمشكلات والضوضاء والتلوّث ، و، و ..... ، لكن 
وفجأة أصابت (ضاحي ) عدوى الهموم ، وما كنت أحسبه مُصَابا 
بها في يوم من الأيام ، ذلك الوباءُ السرطاني المستشري في 
خلايا المجتمع ، فغابت شمس ابتسامته ، وأفل نجم مرحه ، 
وانسدت كل شرايين الفرحة الواصلة بين قلبه وقلوبنا ، 
فاستحالت ( المعدية ) جزيرة من الكآبة ، بعدما كنتُ أقتبس منها 
كل الطاقة الإيجابية اللازمة لباقي اليوم ....
على الفور تقدَّمْت للزواج من أختِ ( ضاحي ) ، ولم أكلّفهم ( 
مليما ) واحدا ، ثم تكفَّلت بجزء كبير من مصاريف أبيه ـ والذي 
أصبح حمي ـ ، وأخيه ـ الذي أصبح صهري ـ حتى تخرج في 
كلية الطب وهو الآن في بداية طريقه المهني وناجح جدا ... أَيْ 
نعم ، تلك الجميلة التي حكيت لكم عنها هي زوجة ( ضاحي ) ، 
وتضحيتها أجبرتني على استصغار نفسي الأنانية والأمارة 
بالسوء واستحقارها ، فقررت أن أقدم شيئا يسيرا مما أملكه ، لـ 
( ضاحي ) الذي قدم لنا كل شيء دون أي مقابل ، وللحق أثمرتْ 
كل التضحيات ، فأسرة ( ضاحي ) نسبها يشرف ، وهم في غاية 
الطيبة ، وزوجتي مثقفة ومرحة جدا ، بالفعل يستحقون كل ما 
قُدّم وأكثر بلا مَنّ أو أذى ، ومن أجل ابتسامة (ضاحي ) فقط 
يهون كل شيء ... صِرتُ الآن أقبَلُ كلَّ أنواع القضايا وأحيل 
قضايا الحسناوات لزملائي !!.. ، وربما لو انتظرتُ حتى أُمَنْطقَ 
ذلك التصرف ، أو قياسَه على المناسب وغير المناسب ؛ لبِتُّ 
الآنَ في مكانٍ آخر ، أحتفل بمناسبة أخرى ، بطريقة أخرى !!! .

ــــ

محمد شعبان


التعليقات



إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

إتصل بنا

زوار المدونة

احصاءات المدونة

جميع الحقوق محفوظة

مجلة حـــــروف من نــــــــور

2016