لفشلنا ، ولضيعنا الكثير من الخير ، أو ربما توقف دولابُ الحياة
تماما عن العمل " ..... أحتفل اليوم بذكرى زواجي الثانية مع
زوجتي الحبيبة وابنتي الغالية في جو من الدفء والغبطة ، لم
يكن يظن إنسان ممن يعرفونني ـ قبل عامين من الآن ـ أن مثل
هذا اليوم كان سيأتي ...
أذكر تماما ذلك اليوم لمَّا دخل ( سكرتير ) المكتب عندي مهرولا
وهو يقول :ـ جميلة ـ يا أستاذ ـ جمييييلة ، :ـ مَنْ هي ـ يا تَعِسَ
الرجاءِ ـ ؟؟! ، :ـ زبونة ! زبونة في غاية الجمااال !! ، :ـ وماذا
تنتظر ـ يا غبي ـ أدخلها حالا ، :ـ حاااااالا ـ يا زعيم ـ ... كانت
تلك الجميلة آخر مَنْ التقيت من الزبائن ذلك اليوم ، واستحقت
تأخير انصرافي لساعة إضافية ، ولعلَّه من تصاريف القدر الذي
ساقها لي تلك الليلة لخير أدركتُ أثرَه فيما بعد ... لا لا ، ليست
هذه الجميلة مَنْ تزوجتُها ، الجميلة ذات عينين نجلاوين ، ولها
قصة مختلفة ، ثم إنَّ زوجتي ـ للحق ـ أجمل بكثير !! فعلا فعلا
دون نفاق زوجتي أجمل بكثير ....
كان أول لقاء لي مع أي عميلة ، هو الفيصل ، بعدها أقرر إن
كنتُ سأعمل بنفسي على القضية ، أو أحيلها لأحد زملاء المكتب
، أو ربما رفضها من الأساس ، وكوني الرجل الثاني في المكتب
يخول لي كثيرا من الأمور ، وشحيحاتُ الجمال بارداتُ الشعور
طبعا تُحَلْنَ مباشرة لأي زميل دون المرور عليّ حتى ، فلم تكن
لي روح لمثل هذا النوع من النساء ، كثير من القضايا أكتفي
بإعطاء التكييف القانوني لها وإبراز ثغراتها ، ووضع الحلول ،
ثم يقوم الباقون بكتابة المذكرات وحضور الجلسات ...
بالفعل كانتْ جميلة ، بل منْ أجمل مَنْ شاهدتُهن في حياتي ،
بدأتْ تحكي قصتها مع زوجها ، والغريب أنها لم تذمه ، أو تذكر
عيبا واحدا فيه ، بل كانت تقول وهي تذرف الدموع :ـ لكن والله
طيب ـ يا أستاذ ـ وابن حلال ، ولو طالَ قطعةً من السماء
لأحضرها لي ، وأنا ما زلت أحبه ـ والله أحبه ـ ... حسَسْتُ فجأة
كأني طبيب نفسي وهي تحكي لي مشكلتها ، بقي فقط أن تتمدد
على ( الشيزلونج ، هههههههه )... قاطعتُها قائلا:ـ عفوا سيدتي
ما المشكلة بالضبط ؟، أتريدينني أن أكيّف لك قضية بمعرفتي ؟
... قاطعتني بسرعة قائلة :ـ لا لا أنا لا أريد إيذاءه أبدا ـ يا أستاذ
ـ ، :ـ ( إممممم ) حيرتني حقا معكِ .. ، :ـ ـ يا أستاذ ـ أنا لم يعد
عندي صبر على رؤيته وهو يحترق أمامي ويذوى من أجل
الجميع ، وتساءلتُ ما العمل إذن إذا ما رزقنا بطفلٍ ؟ كيف
ستصبح شكل حياتنا ؟ ، وهو ينفق أكثر من ثلثي راتبه الحكومي
وراتب عمله الإضافي كاملا على أب مسن لا معاش له ، أو
تأمين صحي يساهم في علاجه ، وأخيه الذي يدرس الطب
ويحتاج لمصاريف مُتلَّلَة ، وأختِه أيضا تخرجت حديثا من
الجامعة ولا تعمل، وهو يرفض عملها بشدة ، ويعتبر نفسه
مسؤولا عن سعادة الجميع وراحتهم ، يعني بصريح العبارة ـ يا
أستاذ ـ هو فاتح بيتين ، ونحن نسكن بالإيجار وما يتبقى من
راتبه لا يكفينا ، بالفعل لا يكفينا راتبه ، وهم يستحقون
المساعدة ، نعم ، أنا أدرك تماما استحقاقهم المساعدةَ ، أريد
الطلاق فقط لأني أشعر بعبْئِيَّتِي عليه ، رغم أنه لا يشتكي ،
لكنني أشعر به ، فكَّرتُ في العمل لأساعده ، ورفض ، فكَّرتُ في
الانتقال للعيش في شقة أصغر وبإيجار أقل ، واكتشفت أن شقتنا
أقلهن إيجارا بالسوق ، فكَّرتُ في ترك الشقة والانتقال لبيت
إحدى الأسرتين أسرتي أو أسرته، وتبين أنه حلّ مستحيل فكلا
الشقتين بالكاد تكفيان من فيها ، و " المشرحة لا ينقصها أموات
"!! ، ولم أجد سوى الطلاق ويعود كل واحد منا لبيته ، لكنني
اكتشفت أيضا أن هذا الحل مستحيل ؛ فعشقه لي منعه من
تطليقي ، فتركت له المنزل ، وعدت إلى بيت أمي ، وكل ذلك ـ
والله ـ من أجله فقط ، وهو يرفض الطلاق ، ويأمل أن يَحِلّ فرج
قريب ....
( يااااه ) ، تتصورون ؟! لأول مرة ـ منذ عملتُ بهذه المهنة ـ
تلفتُ نظري قضية كهذه ، ومُتْعِبٌ حلها ... ما فهمته ، وأثبتته
الأيام بعد ذلك ـ أن هذه الجميلة تضحي من أجل مَنْ تُحبه بآخر
ما تستطيعه ، و" الكيّ آخر العلاج " ! ، ( إممممم ) ! ثم كان
من الممكن جدا استخدام أسلحة الأنثى معه ونفيُه عن عائلته ـ
إن أرادت ـ ليصبح هو وحبَّه ماله ووقته وحياته وكل شيء ملكا
لها ، لكن يبدو أن خلف هذا الوجه القسيم والعينين الساحرتين
والقد الفاتن قلبا يسع الكون كله رحمةً وحنانا ... نعم نعم ،
للحقّ أشكر الأقدار التي ساقت تلك الجميلة لي هذه الليلة ....
إذن القصة لزوجين عاشقين مخلصين في حبهما ، تزوجا عن
حب ، لكن الواقع المرير أبى إلا تدمير هذا الحب ، وكلَّ ما بنياه
من أحلام .
كنتُ لأحيل قضية كهذه لأحد الزملاء بالمكتب حتى وإن كانت
لجميلة كتلك ، أنا أحب اللواتي يشتكين لا من ضعف ذات اليد في
أزواجهن ، وإنما من ضعف أشياء أخرى !! ، فهؤلاء هنَّ من
تشغلنني ، وتعجبنني ، وتَسْهُل إقامة علاقة معهن و ( ااااا ) !!
...
هذه الجميلة بالذات عزمتُ على حل قضيتها بنفسي ومساعدتِها
، واكتشفت أنها كانت نقطة تحول جذرية في حياتي ، فأنا منذ
ثلاثة أعوام تقريبا ـ قبل لقائي بها ـ تخرجتُ في كلية الحقوق
(جامعة بورسعيد) ، ومن وقتئذ وأنا أعمل لدى هذا المحامي
الكبير ، وأتحصل على راتب كبير ، وعمولة ممتازة على كل
قضية مُنْجَزة ، الأمر الذي جعلني لا أفكر أبدا في الانفصال عنه ،
لأفتح مكتبا خاصا بي ، فعنده أصبحتْ لي شهرة لا بأس بها ،
ولي مكانتي المهنية بالمكتب ، والتي يحسب لها ألف حساب ،
ولا تمر قضية بالمكتب دون أن أضع النقاط العريضة لحلها ، ولا
قضية واحدة !، كل ذلك في ثلاث سنوات فقط ! ، كما أن تعدد
القضايا والمشكلات وكثرتها !! جعلت مني محاميا خبيرا بصيرا
بكل خبايا القانون وثغراته ، كل ذلك في فترة وجيزة جدا .. كلمة
أذكرها لأستاذي الكبير عندما قال لي :ـ " يا بني مهنتنا لا
مواسم لها ، هي مثل الأكل والشرب تماما " .. ، وصدَق فعلا
وقولا ، فلا أستطيع أن أحدد وقتا معينا من العام تقل فيه القضايا
والمشكلات ، هي في ازياد مضطرد ، وأصبحتُ متفرغا لقضايا
الشقراوات والحسناوات اللائي تبحثن عن صدر حنون وكلمة
تربت على قلوبهن المكلومة ، ووقت المكتب كان لا يسمح
بالكثير ، فكنا نكمل أحاديثنا ، و ( ااااا ) الأمور الأخرى في
أماكن أخرى !! ، أعترف أنها كانت نقطة ضعف فيّ ، لكن (
هيييييييه ) ما باليد حيلة ....
من أجمل أوقات اليوم ، بل أجملها على الإطلاق تلك التي
أقضيها على العَبَّارة (المعدية ) بين ( بور فؤاد ) ، و ( بورسعيد
) ، أترَجّل عن السيارة ، وأطلق لناظريّ العنان في عرض القناة
الهادئة ، وطولها اللامتناهي ، وفي السماء الزرقاء الصافية ،
والسحائب البيضاء النقية ، ثم يعانق أخيرا ابتسامة ( جلال
الضّاحي ) سائق ( المعدية ) وهو يجلس في مقصورته المرتفعة
والمُشْرِفة على كل الاتجاهات ، ويرى ما لا نستطيع رؤيته ،
ويتابع بمهنية دقيقة حركة السفن الغادية والرائحة في الممر ،
وإلا حدث ما لا تحمد عقباه ، ، سمح لي مرارا بالصعود إلى
مقصورته ، والاستمتاع بالمنظر من أعلى ، ( ضاحي ) شابٌّ في
الثلاثينيات من عمره بخفة ظله يتحدث في مكبر الصوت وكأنه
قائد طائرة ( إير باص ) قائلا :ـ صباح الخيرااااات ، (الكابتن
جلال الضاحي ) يحييكم ويتمنَّى لكم رحلة ممتعة ، على السادة
ركاب ( المعدية ) الابتعاد عن البوابات ، وربط أحزمة الأمان
استعدادا للإقلاع ، ( ههههههه ) ابتسمْ ـ يا أخي ـ ، ابتسمي يا
أختي ، ولا تسمحوا للهموم أن تعبث بتقاطيع وجوهكم الجميلة
... كان الكل ينصت لتعليقاته ونداءاته اللطيفة الرشيقة ،
ويبتسمون ، يضحكون ، ويرسلون له إشارات التحايا ، الكل
يعرفه ويحبه ، وكنت أقول في نفسي :ـ ليت كل سائقي المعديات
، وكذلك سيارات الأجرة يتعلمون منك يا (ضاحي ) كيفية
استدراج البسمة إلى الشفاه العبوسة .. مهارةٌ فعلا ، لا أدري
كيف اكتسبها هذا (الضاحي) ؟! ، والذي ربما يضم صدره هموما
أكثر من هموم كل البشر الذين يُعَدّيهم كل يوم ، هذا ما كان
يعجبني فيه حقا ، قدرته عجيبة في جعل الناس تحب الدقائق
البسيطة على متن ( المعدية ) كل يوم ، صارت ( المعدية ) به
عالمًا جميلا هادئا نااااائيا جدا عن عالم البَرّ الشرس المكتظ
بالمنغصات والمشكلات والضوضاء والتلوّث ، و، و ..... ، لكن
وفجأة أصابت (ضاحي ) عدوى الهموم ، وما كنت أحسبه مُصَابا
بها في يوم من الأيام ، ذلك الوباءُ السرطاني المستشري في
خلايا المجتمع ، فغابت شمس ابتسامته ، وأفل نجم مرحه ،
وانسدت كل شرايين الفرحة الواصلة بين قلبه وقلوبنا ،
فاستحالت ( المعدية ) جزيرة من الكآبة ، بعدما كنتُ أقتبس منها
كل الطاقة الإيجابية اللازمة لباقي اليوم ....
على الفور تقدَّمْت للزواج من أختِ ( ضاحي ) ، ولم أكلّفهم (
مليما ) واحدا ، ثم تكفَّلت بجزء كبير من مصاريف أبيه ـ والذي
أصبح حمي ـ ، وأخيه ـ الذي أصبح صهري ـ حتى تخرج في
كلية الطب وهو الآن في بداية طريقه المهني وناجح جدا ... أَيْ
نعم ، تلك الجميلة التي حكيت لكم عنها هي زوجة ( ضاحي ) ،
وتضحيتها أجبرتني على استصغار نفسي الأنانية والأمارة
بالسوء واستحقارها ، فقررت أن أقدم شيئا يسيرا مما أملكه ، لـ
( ضاحي ) الذي قدم لنا كل شيء دون أي مقابل ، وللحق أثمرتْ
كل التضحيات ، فأسرة ( ضاحي ) نسبها يشرف ، وهم في غاية
الطيبة ، وزوجتي مثقفة ومرحة جدا ، بالفعل يستحقون كل ما
قُدّم وأكثر بلا مَنّ أو أذى ، ومن أجل ابتسامة (ضاحي ) فقط
يهون كل شيء ... صِرتُ الآن أقبَلُ كلَّ أنواع القضايا وأحيل
قضايا الحسناوات لزملائي !!.. ، وربما لو انتظرتُ حتى أُمَنْطقَ
ذلك التصرف ، أو قياسَه على المناسب وغير المناسب ؛ لبِتُّ
الآنَ في مكانٍ آخر ، أحتفل بمناسبة أخرى ، بطريقة أخرى !!! .
ــــ
محمد شعبان