( إمممممم ) ، نعم نعم ، أنا لا أنزه نفسي عن المساءلة ، فأمثال ( شريف بيه ) ، لا يتغولون ، ولا يقتاتون إلا على الصمت الجبان والخوف على لقمة العيش من كل صعلوك مثلي ، فللحق ، أراني وكل الصعاليك هنا نستحق عقوبة أكبر من عقوبته ، لكنْ ـ للأسف ـ الجُبْنَ لم يصبح بعدُ تهمةً يحاسب عليها القانون !! ..
كانت مفاجأة قاسية أن يطردني ( شريف بيه ) ، وهو منذ شهر فقط رفع راتبي ، ، وخصص لي سيارة للتنقل بين فروع المؤسسة التي تملأ البلد ، بعدها ولاني منصب مشرف عام ، وفجأة سلبني كل شيء ، استدعاني ، ثم قالها لي بملء فيه :ـ " أنت صعلوك من الصعاليك وأمثالك كثر ، ويرابطون على المقاهي ويتسكعون في الطرقات " .... ( آااااه ) إنه انتقام الملوك !! ، ويلَ غبائي ، كيف لم أدرك ذلك عندما وقفت أمام مكتبه الشهر الفائت ، وأنا لم أزل مساعدا لرئيس القسم وطلبت منه إعادة نظر في راتبي ورواتب زملائي التي ما زالت محلك سر منذ خمس سنوات ، وباتت لا تفي بأقل الضروريات لزوجين يعيشان بمفردهما في شقة بالإيجار ، وسيادة ( شريف بيه ) لم يرحم كل ذلك، فرماني رمية كلاب السكك .... لم يشفع تفانيّ في خدمة كرة اللحم المتكرشة هذا ، يجلس منتفخا وهو ينتف من شعر أنفه بأصبعيه أمامي ويفرك ما بهما على الأرض قائلا :ـ أخلِ طرفك الآن ... قرار لم أتوقعه منك يا آكل ناسك ، وناكر المعروف ... لكن انتظر انتظر ، أنت تستحق كل هذا وأكثر !! نعم ، ألست وأمثالك من الصعاليك من كنتم تدارون وتوارون حول مصائب هذا ( الحشَّاش ) ، السّكير ، زير النساء ، المتهرب من الضرائب ، والمجحف حقَّ موظفيه ، الذي يؤمن عليهم بـ ( ملاليم ) ، ويمنع الراتب عنهم الشهر والشهرين ، نهرع ونختبئ كقطيع جاموس عندما يفترس الواحد منا أمام أعيننا ولا يستطيع أحد أن يفتح فمه ، يقضم رقبته ورقبة أسرته جميعا ، ونكتفي بمصمصة الشفاه ، أو الطّبّ بكلمات عابرة تخفف وطأة الطرد والاستبعاد ... نعم ، لقد حدث ذلك كثيرا مع غيري ، وأمام عيني ، وكنتُ أحسب أني بمعزل عنه وأن لي منزلة خاصة عند ( شريف بيه ) ، وأفقت متأخرا على حقيقة أن هؤلاء مصاصوا شباب وطاقات ، لا عزيز لديهم ولا صاحب سوى القرش ، القرش فقط ..... كنت بحاجة فعلا إلى المال ، وجاء الطرد في وقت جد صعب ، فبجانب كل الأعباء المالية التي احتوشتني ، كانت زوجتي تغسل كليتيها كل أسبوع ، ولها أدوية خاصة وباهظة الثمن ، وليس لي أو لها تأمين صحي يكفل علاجها ، ولولا بعض المساعدات الضعيفة من أسرتينا كنتُ شحذت بها على أبواب المساجد ، من أجل كل هذا وقفت أمامه وقفة المستجدي المهينة مستعطفا :ـ أرجوك يا شريف بيه ، أنا ليس لدي دخل آخر ، سيخرب بيتي ، ستموت زوجتي ، ارحمني . :ـ اذهب وأخلِ طرفك ـ أيها الصعلوك ـ ، وليكن هذا درس رادع لك ولكل من تزعمتهم وهيَّجْتهم علي وطالبتم بإصلاحات وزيادات، وليعلم الجميع هنا أنكم لستم سوى عبيد عندي ، و باب المؤسسة مفتوح على مصراعيه ، والكل يعلم لوائحها وقوانينها ، اذهب ـ غير مأسوف عليك ـ وسفّ الثرى والْعق الطين أنت وزوجك ، لم يعد لك مكان هنا ، ولن يقفَ معكَ أحدٌ الآن .... أخفيتُ الأمر عن زوجتي حتى لا أزيد ألمها بمصيبة جديدة ، وازدردت الصبر بملعقة الصمت ، لكنها أدركت ، فأخذت المسكينة تقلل من جرعة الدواء دون علمي ، والدواء الذي يكفي لأسبوع أصبح يكفي لأسبوعين وثلاثة ، وامتنعت عن جلسات الغسيل ، لا أدرى أيُعدّ ذلك انتحارا أم لا ؟ ، لكنها بالفعل ماتت ، ضاعت المسكينة من بين يدي ، وهي تبتسم قائلة :ـ اطمئن يا حبيبي ، وسلّم الأمرَ لله ، وربنا معك .... كان بقائي بالعمل سييسر ـ دون شك ـ عملية نقل كليتي لها ، نعم كنت انتويت ذلك ، وسعيت في كل إجراءاته ، لكن كل شيء توقف بعد طردي التعسفي من المؤسسة ، ولَكَمْ كنتُ أتمنَّى أن تعيش تلك الصبورة الحمولة حتى تراني وأنا أتحول لمدير أكبر شركة دعاية وإعلان بالبلد ، ويعمل العديد من المناديب تحتَ يديّ ، ولديّ العديد من العملاء ذوي المال والأعمال ، ويثقون في خبرتي ، ذلك كان تخصصي الجامعي الذي ألجأتني الحاجة لهجره والعمل بعيدا عنه ، واكتشفتُ أنه أمر متعمَّد ألا يمتلك الصعاليك ذلك السلاح القوي " فويل للملوك إن امتلك الصعاليك الإعلام " ... لكن ـ الحمد لله ـ فلقد أدركت أيضا أن ما حدث كان كلّه خيرا لي ، وكان فراقها الصعب نقطة تحول مصيرية ليس في حياتي فحسب ، بل في حياة كل الصعاليك ... حاولتُ لفترة أن أشغل نفس وأنسى ، قضيتُ أغلبَ الوقت في العمل ، كنت أتنفس عملا وشغلا ليل نهار ، بالفعل نسيت كل شيء ، حتى علمتُ أنَّ ( شريف بيه ) سيبدأ مُسلسلا جديدا من الطغيان والتجبر ، لكن في دائرة أكثر اتساعا من مؤسسته ـ أو بالأحرى سجنه الذي يعدم فيه الشباب المحتاج ببطء ـ ، رشَّح (الحشَّاشُ ) زيرُ النساء نفسه لعضويةِ مجلس النواب ، نعم زير نساء ، أتعلمون شيئا ؟! ، واقعة طردي في مكتبه كانت أمام إحدى المومسات ، كانت تجلس على حجره ، ترتدي تنورة ضيقة ليست فوق الركبتين بل فوق الفخذين ، وتعبث له في شعر صدره والسلسلة الذهبية المعلقة برقبته أمامي ...
وكانت المفاجأة ، طلب (شريف بيه ) مقابلتي في مكتبي ، حضر بنفسه لمكتبي ليطلب مني أن أقود حملته الانتجابية ، أراد الرجل أن يكتسح لا أن يفوز فقط ، حملة انتخابية لمرشح مجلس الشعب كان يكفيها أن توضع لها بعض مكبرات صوت على سيارة ربع نقل فتجوب له ربوع دائرته ليل نهار وكفى ، لكنه أراد أكثر من ذلك ، أراد أن يكون الأول والأوحد أمام كل المرشحين ، ولم تزل عادته السيئة فيه لم يبرحها ، ينتف شعر أنفه بأصبعيه ، ويفرك ما فيهما على الأرض أمامي وهو يقول :ـ قالوا لي ـ يا سيدي ـ إنك أحسن مدير دعاية وإعلان في البلد ، وأريدك أن تقوم معي بالواجب ( ها ) ، :ـ اطمئن ـ يا شريف بيه ـ سأجعل منك الأصلح ، ولن يقفَ أمامكَ أحد ... صورة زوجتي وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة معششة في ذهني .. نعم نعم ، ربما كانت ستموت أعلم ذلك ، فمرضها كان صعبًا وفي مرحلة متأخرة جدا ، لكن !! أن يكون موتها مرتبطا بهذا الكلب العقور العفن شيء لم يزل يحزنني ، ويعمق أخاديد الألم في سويداء قلبي ، ويُوتّد لكرهي له أكثر وأكثر ..
كلماته أمام الناخبين كانت بحساب ، كنت أعدها له بنفسي ، وضعت برنامجا صارما لزيارة كبرى العائلات بالبلد ، ومشاركتهم أفراحهم وعزاءاتهم ، أنتجنا لقاءات تليفزيونية خاصة على الفضائيات ، وسخَّرت كلَّ صلاتي وعلاقاتي بالمسؤولين لأطمئنهم من ناحيته ! ، ووعدناهم بالانضمام للحزب بعد الفوز ، أو أن يكون معارضا ( كرتونيا ) مستقلا يُلعب به كالكرة ، وأصبح اسم ( شريف بيه ) عَلَمًا في رأسه نار ، والصغير قبل الكبير يهتف بحياته، كان ( الأسد ) هو رمزه الانتخابي ، وللناس مع رموز المرشحين شأن عجيب ، ينجذبون له وكأنّ له علاقة بشخصية المرشح ، فكان رمزه جزءا مهما جدا في الدعاية ، :ـ الأسد يزأر ليحمي حقوقكم ، :ـ الأسد بطل المرحلة الجديدة ، :ـ الأسد يغادر عرينه ليمثلكم ويشرفكم ،:ـ انتخبوا الأسد ، :ـ الأسد سيكون ملك المجلس وسيعيد حقوقكم الضائعة ، ووضعت له برنامجا قويا ، واشترينا موظفي اللجان التي ليس له بها شعبية ، وسُوّدت أغلب بطاقاتها لصالحة ، آلاف الأصوات تم شراؤها بأحقر الأثمان .. صدقًا للحظةٍ فكرت أن أوقف كل شيء وأنسحب من اللعبة وليذهب كل الصعاليك للجحيم ، وماذا سيحدث إن ذهب هذا ( الشريف ) ؟! ، بالتأكيد سيأتي غيره ما دام عدد الصعاليك في تزايد مستمر ، ولم يعد الناس يؤمنون بوعود مؤجلة ، الأهم ما تراه العين وتشهده ، موائد طعام كبيرة بها كل ما لذ وطاب ، أكياس الزيت والسكر ، و ( ياميش ) رمضان ، وكسوة العيد ، مساعدات للأرامل والعجزة ، استقطاب للـ ( البلطجية ) ، وفسدة الموظفين والمسؤولين ، و ، و ، .... فقط صورة زوجتي لحظة احتضارها هي ما كان يثبتني ويقويني ؛ لأحكم الطوق حول عنق هذا (الشريف ) ، بل عاهدتُ نفسي ألا يتوقف الأمرُ عندَه فقط ، إنَّما أن أوسع دائرة الانتقام لتطال كل ( شريف ) مثله .... ولمَّا أصبح هو والقبة قابَ قوسين أو أدنى ، أريته الانتقام الحقيقي ، وعرّفته أن انتقام الصعاليك أقسى من انتقام الملوك ... قلتُ له وهو طريح الفراش بالمستشفى :ـ " الصعلوك ـ أيها الغبي ـ لا يملك الكثير ليفقده ، وأنت لم يعد لك مكان هنا ، ولن يقف بجانبك أحد الآن ، فاذهب غير مأسوف عليك " ... تم القبض على ـ شريف بيه ـ في شقة مع إحدى النساء التي تم جلبها لتوقع به ، ومعهما كمية كبيرة من الحشيش ، كان يحتفل بنجاحه ، قبل أن تظهر النتيجة ، ووقع العجل وكثرت سكاكينه ، ( الضرائب ) ، ( التأمينات الاجتماعية ) ، ( حماية المستهلك ) ، (مراقبة الجودة ) ، هُيّجت عليه كلُّ الأجهزة ، و ( الداخلية ) بالطبع أولهم ، ناهيك عن بعض المرشحين ضدَّه الذين أصبحوا مثل الكلاب على جيفة !! .. اقترابي منه سهل لي تعرفَ الكثير عن أسراره رغم أنه كان حريصا جدا وكتومًا ، واستُخْدِمَت كل الـ ( السيديهات ) التي سُجّلت له بالصوت والصورة دليلا دامغًا ضدَّه ، وكانتْ قضية محكمة لا تخرّ منها نقطة ماء ، بمساعدة كل الصعاليك الذين ثاروا على ( شريف بيه ) فتعاونوا وأحكموا الشرك هذه المرة ، كانت الضربة قوية وقاصمة لم يحتملها ، وقضى ما تبقى له من عمر في مستشفى السجن بين الحياة والموت حيث لم يطق الصدمة ، ولكم كنتُ أتوقُ أنْ أراه حيًّا ، وأرى نظرة الحسرة في عينيه ، وصروح طغيانه تتهاوى أمامه ، وأحلامه تحت القبة تتسرب من بين يديه ، كان هذا المشهد سيشفي غليلي أكثر ، ويشعرني أنني أعدت جزءا للمسكينة التي أحببْتُها ، لكنَّ عزائي الوحيد أنْ أصبحَ موتها شاهدا على تحرر كل الصعاليك وانتصارهم ..
ــــــــــــــــــ
محمد محمود شعبان