أغلق الباب للمرة الأخيرة، يرحل، تُشرع نافذة الذكريات، لن يترك ميراثاً لأولاده سوى ذكريات هي كل سعادته، برغم دموعه إلا أن ابتسامة رقيقة ترتسم على محياه، هنا عاش كل حياته، ونبض أيامه، كان يروق له الاستمتاع بالجوار حيث المناطق التاريخية والشعبية...
خارج البيت كان رفيق والده الذي كان له دليلا للغوص في بحور التاريخ... أما داخل المنزل كانت أمه هي أنيسة قلبه وملهمته في الطيبة والجمال، كانت أول امرأة في حياته وآخرهن، يتذكرها في مشهد عشق حين تبسط سجادتها أمام باب شرفتها تصلي، تناجي، مع آخر نسمات الليل وبزوغ فجر جديد، يرقبها من خلف نافذة غرفتها ذات الزجاج الملون والذي تتناسق مع نفس أجواء البيت الخشبي...تسرع حيث الشرفة الواسعة بامتداد البيت تحمل الحُب، وفي زاوية منها مجرى خشبي تنثر فيه الحَب والماء، تصدر صوت تفهمه الطيور، تنتفض من على أغصان الشجرة التي تتوسط حديقة المنزل... تقف صفاً واحداً في نظام بديع، كل منهم يأكل وينظر إليها شاكراً، تعرفهم تماما، تمد كفيها تحمل احدهم، تقبله، يلامس وجهها كأنه يشتم رائحتها...كانت توزع محبتها عليهم جميعاً.
نسمات الصباح تنشر تسابيح في الأرجاء.. حتى جاء يوم لم تكن هناك، بكاها الجميع، الطير يدور حول غرفتها، يودعها حتى المقابر حيث بنت أعشاشها، تنشر الظل هناك... رحل من في المنزل، شغلتهم الحياة، أمسى أثرا بعد حين، صدر قرار إزالة للبيت؛
عاد من كان فتى في شوق لرؤية قلبه قبل أن يُزال.... أزَال تراباً بحجم الأيام، ضيوف كثر تملأ المكان، بنت أعشاشها في الأرجاء، تخرج وتدخل من نافذته المكسورة، يخلع نعليه، يمشي ببطيء حتى لا يزعج أصحاب البيت، تخيل أثار قدم يعرفها لم يمحها تراب الأيام، يخر على قدميه يقُبلها لا يمسح التراب من على فمه بل احتواه داخله كرائحة مسك... رأوه التفوا حوله، لم يهابوه، فقد كانت له نفس عطرها.
........
محمد يوسف