التوحيد منهج حياة
انتهت شعائر فريضة الحج منذ أيام قلائل. انتهي
أعظم مؤتمر عالمي لجمع المسلمين في العالم. انتهت أيام البركات والنفحات المنزلة
على عباده من رب الأرض والسماوات. وكما تعودنا كثيرا بعد انتهاء هذه الشعائر
المباركة أن نسأل أنفسنا السؤال المعتاد: ماذا بعد الحج؟
كثير من الدعاة والمخلصين والعلماء أفردوا
مؤلفات ومصنفات عديدة في الدروس المستفادة من الحج لكن ما نريد أن نركز عليه هنا
هو الدرس الأعظم من هذه الفريضة ألا وهو أن الحج بشعائره ومناسكه يجب أن يكون شعار
المسلم ومنهجا لحياته. كيف لا والحج يعلمنا الدرس الأكبر من دروس ديننا الا وهو
توحيد الخالق سبحانه وتعالى، ذلك التوحيد الذي ينبني عليه أصل الدين، ذلك التوحيد
الذي لا ينفع للعبد عمل بغيره ولا يقبل منه صرف ولا عدل.
لذلك علمنا الإسلام أن بيت الله الحرام أقيم على
التوحيد ولنشر التوحيد في العالم أجمع لذلك تجد الحاج حينما يدخل في النسك يرفع صوته
بالتوحيد، ويعلن الانقياد لله تعالى والاستجابة له وحده، قال جابر بن عبد الله رضي
الله عنهما وهو يحكي حجة النبي صلى الله عليه وسلم: "فأهل رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالتوحيد "رواه مسلم. يعني بذلك التلبية لأن معنى التلبية أن الحاج
يفعل ذلك استجابة لأمر الله وانقيادا لأوامره واجابة بعد إجابة في جميع الأحوال.
لذلك لا يجب أبدا أن تنقطع التلبية عن حياة
المسلم بمجرد انتهاء موسم الحج بل ينبغي أن تكون حياته كلها تحت شعار
"التلبية منهج حياة". يظل قلبه ينبض بالتلبية مادام فيه نبض.
لذلك أخبرنا الله في كتابه أن هذا البيت العتيق
هو بيت التوحيد قال تعالى:
"وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ
الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ
وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ"
بيت التوحيد وبيت العقيدة النقية يتوجه اليه
الحاج وغيره ليقصد عبادة الله تعالى.
فيجب على العبد المسلم الذي يتوجه الى هذا البيت
في الصلاة أن يعلم أن قضية حياته الكبرى هي التوحيد وأنه يعيش ويموت من أجل عبادة
الله سبحانه وتوحيده.
اذا تذكر العبد هذا الأمر بذل ما في وسعه وجهده
لرفع راية التوحيد في حياته كلها.
إذا علم العبد هذا واستقر ذلك في عقيدته ونفسه
جعل من توحيد رب العالمين منهجا لحياته لا يقوم الا بالتوحيد ولا يجلس الا التوحيد
ولا ينام الا بالتوحيد.
ومن أبرز النواحي العملية التي يؤصلها الحج في
نفسية العبد المسلم هو أنه يعلمه توحيد الدعاء وذلك بأن يصرف الدعاء لله وحده ولا
يدعوا غير الله.
لذلك أصل النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة عظيمة
في يوم عرفة حينما قال:
" خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا
والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
قدير."
فعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحد الله
في عبادة من أعظم العبادات الا وهي عبادة الدعاء وعلمنا أن ندعوا بدعاء كله توحيد
لله وافراده بالعبادة.
فعندما يتعرف المسلم طوال أيام الحج أن الحج هو
توحيد الله وأن التوحيد هو منهج حياة العبد المسلم علم أن الحج بمعناه التعبدي
المعنوي لا يكون في أيام الحج فقط بل في جميع الأحوال والأزمان.
يتأكد هذا المعنى العظيم في مثل هذه الأيام التي
نحياها فنجد الحروب مستمرة على الدين وأهله في كل بقعة تقريبا من العالم وهذا
مصداقا قول النبي صلى الله عليه وسلم:
"يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ
مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ
بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ
السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ وَيَجْعَلُ فِي
قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ: وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ
الْمَوْتِ ".
فحب الحياة مناقض تماما لكمال التوحيد في القلب
فالموحد يعرف أن الحياة هي مرحلة وتنتهي ويعرف أن مرده الى الله سبحانه وعندما
يكره الموت فهو بذلك لا يدرك حقيقة الوجود وأن كل شيء هالك الا وجهه سبحانه.
فالموحد هو من سينجو في مثل هذه الأحداث التي
تحيط بنا والموحد هو الذي سيعرف كيف يتعامل مع مثل هذه المواقف.
يعرف الموحد أن توحيده لله يقتضي تمسكه بدينه
وثوابته ويعمل بكل ما أوتي من قوة لتمكين دينه في الأرض وإقامة شرعه سبحانه وتعالى
وهذا لن يتأتى على هوى كثير من بني جلدته المسلمين لا أقول الكافرين فتجد من يقف
في وجهه يحاربه بكل ما أوتي من قوة ويسعى لتشويه صورته وصورة الدين فيواجه هذه
المواقف بما يقتضيه توحيده لله فيثبت ويثبت ولا يداهن ولا ينافق بل يقوله بأعلى
صوته:
"ان الحكم الا لله" وينادى وينادى
بوجوب إقامة شرع الله في الأرض ولو كره ذلك أهل الأرض أجمعين.
فالموحد هو من يوحد الله توحيدا كاملا شاملا لكل
جوانب الحياة ومن أهمها "الحكم" وهذا الجانب العظيم من أهم جوانب
التوحيد حيث أنه جانب جوهري مفصلي فتجد أن الذين ينافقون والذين في قلوبهم مرض
يسارعون في الذين كفروا ويرددون مقولاتهم بضرورة فصل الدين عن السياسة ويهرتلون
ويكافحون من أجل علمنيتهم العفنة النتنة وهم في ذلك مشابهون للكافرين في أفعالهم
وأقوالهم.
إن الحج يعلمنا توحيد الحكم فنجد أن جميع الحجاج
يلتزمون بأحكام الحج ويؤدونها بالكيفية التي شرعها الله ورسوله.
فإذا كان الحال كذلك فيجب أن نتعلم توحيد
الحاكمية لله في كل شئوننا وجميع أحوالنا.
باختصار شديد ينبغي للحج أن يكون منهجا للحياة
بكل معانيه ودروسه.