سبَّل الطبيب الشاب ذو اللحية البنية المشذبة عيني الرجل الشيخ مرجعا ومحوقلا ، وغطى وجهه، وكان قبل أن يستدعوه لهذه الحالة الطارئة التي سبقته لها مشيئة القدر فلم يستطع معها عمل أي شيء كان في مكتبه يجلس بعد ساعات من العمل الشاق يلتقط أنفاسه في حجرة مكتبه بعيدا عن رائحة التعقيم الخانقة وأصوات الآلام المفزعة .. يحك لحيته .. ينزع السماعة عن رقبته ... يسند رأسَهُ بكفه يكاد الصداع يشقه نصفين .. فنجان القهوة بانتظاره على المكتب .. تقع عينه على تلك الورقة أمامه .. آااه إنها ورقة التحليل الذي طلبه من ذلك الشيخ الذي حضر اليوم بصحبة ابنته المريضة .. لكن كيف .. يُحَدِّثُ نفسه :ـ لقد دخلت ابنته حجرة العمليات بعدما ذهب مباشرة هذا الصباح .. لمنْ حَلَّلَ هذا الرجل ؟؟! .. غريبة ...
لقد كان الرجل في حالة يرثى لها عندما دخل حجرة الاستقبال بابنته الشابة ذات العشرين ربيعا صائحا : ـ أغيثوني يا خلق الله . أنجدني يا دكتور .. وكانت الشابة في شدة من الألم تعاني .. تضغط على أسفل بطنها منحنية بجسدها لا تتمالك نفسها .. على الفور أوقع الطبيب الشاب الوسيم القسيم الكشف عليها ، وكتب التحاليل المطلوبة وفي لحظة اضطراب تناول والدها الشيخ ورقة التحاليل المطلوبة وذهب .. تأكد الطبيب الشاب أنها ( الزائدة الدودية ) وبلا تردد طلب نقل الشابة على الفور لغرفة العمليات لأن الحالة توشك أن تتطور للأسوأ ويلزم الاستئصال حالا ، وهنا برزت خبرة ذلك الوسيم العشريني ممشوق القوام وجرأته فأُلهم القرار المناسب في الوقت المناسب ، فكان الاستئصال هو الحل .
وتمت العملية بنجاح ـ والحمد لله ـ وتم استئصال الزائدة الدودية، لأنها أصبحت تشكل خطرا على الجسد كله، ثم نُقلت البنت لغرفة الإفاقة في الوقت الذي حضر فيه الأب المكلوم في ابنته الوحيدة والتي ليس له في هذه الحياة غيرها قائلا بصوت تخنقه أنفاسه المتتابعة وخوفه على ابنته الوحيدة :ـ طمْئني ـ يا دكتور ـ على ابنتي الوحيدة .. هل عملتم اللازم لها ، ثم ناول الطبيبَ ورقةَ التحليل.
: ـ الحمد لله .. ما هذا ـ يا عم الحاج ـ ؟!
:ـ والله لا أدري يا بني .. كنت أظن أنهم سيأخذون مني دما لابنتي .. وجدتهم يقولون انتظر نتيجة التحليل ... بدا الرجل في جلبابه وعمامته شاحبًا مؤرقا يفترسه الإرهاق افتراسا .. ظهر من لهجته أنه ريفي ساذج ... كما أنه أمِّي يحمل ختما يوقع به على أوراق المستشفى .... تناول الطبيب الشاب الورقة مبتسما ، وقال :ـ :ـ اطمئن ـ يا عم الحاج ـ لقد تمت العملية ونجحتِ والحمد لله .. لا تقلق .. ابنتك في أمان الآن .. لقد استطعنا القضاء على مصدر الخطر، وبعد فترة ستخرج معك إن شاء الله .
:ـ لا حرمنا الله منك ـ يا دكتور ـ .. والحمد لله أن يسرك الله لنا في الوقت المناسب لتنقذها قبل أن تفترسها الزائدة الخبيثة وتضيع من يدي .. إنها حياتي كلها ونور بصري ـ كاد يبكي وهو يقولها ـ .. ولا أتصور العيش بدونها .. لقد أصبحتُ أمًّا لها وأبًا بعد وفاة والدتها وهي ما زالت في المهد ...
:ـ حفظك الله لها وحماها لك .. لكن ـ يا عم الحاج ـ أنا طلبت من حضرتك تحليلا لابنتك وليس لك ـ ظهر على وجهه ابتسامة رقيقة ـ !.. عمومًا لم نعد بحاجة للتحليل لقد عرفنا الداء وكان ظاهرا واستأصلناه بسرعة حتى لا يؤثر على باقي الجسد ، وأنا سأكون في مكتبي إن احتجتم لأي شيء ـ قالها للممرضة التي تتابع الحالة معه بينما البنت ما زالت في هذيان التخدير ـ .
يرتشف فنجان القهوة يحاول أن يقتنص بعضا من الراحة قبل أن ستأنف عمله الشاق، فالطوارئ هذه الأيام لا تنقطع عن المستشفى العام ليلا ونهارا .. مشاجرات وخلافات ، تظاهرات وشغب ،مباريات تنتهي بالعنف والقتل، ضحايا إرهاب وهجوم مسلح وغيرها وغيرها من بلايا ورزايا يندى لها الجبين ... لفت انتباهه الورقة المقلوبة على المكتب ورقةُ التحليل الخاطئ .. أخذته ( هستريا ) الضحك مما فعله هذا الرجل الريفيُّ البسيطُ الذي لا تتعدى ثقافته ومعارفه ـ بحال من الأحوال ـ الحقل الذي يملكه ، كذلك اكتشف أن ابنته زراعية متخصصة من الدرجة الأولى سمعها في التخدير بعدما رتلت آيات من القرآن تتحدث عن مواقف لها مع طلاب وطالبات الكلية وتقول بصوت متهدل كمن يتحدث أثناء نومه :ـ ( يا جماعة .. يجب أن تفهموا .. المستقبل في زراعة الصحراء ، وهذا ما أركز عليه في الماجستير وسأتوسع في بحثه في الدكتوراه ، وعليكم جميعا الاهتمام بذلك الأمر ) ... دعاه الفضول ليعرف عملها بعد إجراء العملية ـ فاطلع على الأوراق فعرف أنها معيدة بكلية الزراعة .. لفت سمعه أثناء العملية أسلوبها الراقي في الكلام وانتقاء الألفاظ ،والتخدير له أثر سلطاني في إبراز مكنون الأخلاق والنوايا وما تنطوي عليه النفس .. ظل في عمله دائبًا ومن وقت لآخر ينظر لوجهها الصبوح الملائكي .. الممرضة بجانبه لاحظت ذلك فقالت :ـ ( أكثر الله من أمثالك يا بنيتي يا رب ـ وبنيةٍ طيبة أردفت قائلة : ورزقكِ الله الزوجَ المناسب والراعي الصالح ) .. ابتسم الطبيب الشاب وهو ينظر للممرضة الطيبة ، وطلب منها أن تجفف عرقه الذي أوشك أن يبلغ لحيته البنية المشذبة ..
وفجأة في مكتبه امتلكه الصمت وتحولت هستريا الضحك إلى ذهول وحزن عندما مدَّ يدَهُ وقَلَب ورقة التحليل ليُفَاجَأَ بأن الرجل المسكين مصاب بسرطان الدم اغرورقت عينا الطبيب الشاب بالدموع ، وهَمَّ منطلقا ليخبر الرجل ، لكنه لمَّا وصل لغرفة الإفاقة حيث ترقد ابنته دكتورة الزراعة لم يجده ، ووجد الشابة بمفردها، وقد بدأت تستعيد وعيها شيئًا فشيئًا .. أرسل إليها نظراتِ إشفاقِ حانيةً بينما كان يُجري لها بعض الفحوص ويقيس لها النبض والضغط وغير ذلك ... فتحت عينيها .. تدور بهما في أنحاء الغرفة وهي تقول :ـ ( أين أبي ؟ .. أين أنا ؟ .. ماذا حدث ؟ )
:ـ لا تخافي واطمئني .. أنت بخير .
دخلت إحدى الممرضات مسرعةً
: ـ الْحَقْ ـ يا دكتور ـ
: ـ خيرٌ ؟!
: ـ نحتاجك في الطوارئ حالا .
: ـ حاضر .
همست الممرضة في أذنه بينما ينطلقان معا لقسم الطوارئ
: ـ والد الشابة سقط مغشيًّا عليه ، وحالته خطيرة جدا ، والأطباء حوله هناك .
لكن مشيئة القدر أرادت أمرا آخر، فلم يستطع الطبيب الشاب عمل شيء للرجل المسكين ، ولم يسمع منه سوى همهمات متقطعة .:ـ ( ابنتي يا دكتور .. ابنتي )، وفاضت روحه لبارئها ... سبَّل الطبيب عيني الرجل مُرجِّعًا ومحوقلا ، وغطى وجهه ، وقال بصوت يملؤه إصرار وثبات : لا تخف يا عم الحاج .. الأمانةُ معي ولن تضيعَ أبدا ـ بإذن الله ـ .
========================
محمد شعبان