عادت سارة
ومعها أخيها تامر عقب إنتهاء يومهما الدراسى ، تلقتهما سهير فور دخولهما
وأصطحبتهما إلى نافذة غرفة نومها ، وأشارت لهما إلى السيارة الرابضة أسفل
العمارة وهى تلوح لهما بمفاتيحها بين
أصابع يدها .
إحتضناها فى
سرورٍ وفرحةٍ عارمة ، ورجاها تامر أن تعطيه المفتاح ليجلس فيها لبضع دقائق ، إلا
أن أخته سارة قاطعته رافضة
-- اصبر يا
تامر لحد ما نلاقى سواق وبعدين نركب معاه كلنا ونلف المدينة شارع شارع.
إستحسنت سهير
الفكرة ، جلست على سريرها وأدنت تامر منها هامسةً
-- أصبر يا
حبيبى كلها يومين ونركبها سوا
لم يخب ظنها
ففى مساء اليوم التالى ، أتى عم دياب وبصحبته رجلاً فى الستينات من عمره مقدماً
أياه لهما على أنه السائق المنتظر .
تبادلتا
النظرات ...تمّهلت سهير قليلاً ثم قالت
-- طب يا حاج
..هأكلم سى حسن وأرد عليك
سكتت برهة ثم
أردفت
-- ما أنت
عارف يا حاج ..الرأى رأيه والشورة شورته
نهض عم دياب
واقفاً وتبعه الرجل ، لقد وعى العجوز الرسالة فأنصرف وذهنه مشغول بالبحث عن سائق
آخر .
إتفقت الأم
وإبنتها على رفض السائق الثانى دونما سابق إتفاق ، فقد كان لكلٍ منهما حيثياتها غير
المعلنة .
الأم تبحث عن
شئٍ ما ، والإبنة تبحث عن رجلٍ ذى مواصفات معينة ، قرأت عنه فى كتبها الرومانسية
والجنسية أيضاً .
يومان مرا
ولم يتصل عم دياب ولم يأتى بسائقٍ جديد .
ساور سهير
القلق ، فالسيارة رابضةٌ بلا حراك أمام العمارة والمفاتيح بين يديها ، ولكن لم
تعثر على من يديرها إلى الآن .
"ربما
غضب العجوز فأحجم عن الإتيان بسائقٍ آخر ، وربما فضّ يده وتخلّى عنها ، وأهمل
البحث عن سائق مناسب "..هواجس تسللت إلى ذهنها.
لاحظت سارة
القلق الذى إرتسمت ملامحه على قسمات وجه أمها ، فأشارت عليها بالإتصال به
تليفونياً ، رمقتها أمها فى دهشة ...همهمت ..
" كيف
غاب هذا عن ذهنها " .
أسرعت إلى
غرفتها وأدارت قرص الهاتف ، وسارة تجلس قبالتها على حافة السرير تترقب رده
-- خير يا
حاج فينك؟...إنت زعلت واللا أيه ؟
-- لا والله
يا بنتى ..هو أنا أقدر على زعلكم
صمت برهة ثم
إستطرد قائلاً
-- اليومين
اللى فاتوا كنت بعافية شوية
قاطعته
مبديةً قلقها على صحته
--ألف سلامة
عليك يا حاج ..إن شالـله عدوٌينك
-- الحمد لله
أنا دلوقتى أحسن ..بس إبن أخويا عندى..
سكت لثوانٍ
إلتقط أنفاسه ثم أردف
-- جه من مصر
يزورنى..أبوه بعته يطمئن علىّ لما عرف إنى بعافية وأهو إطمأن وبمجرد ما يسافر بكره
..هأبتدى أدوّر على سا...
سكت فجأة كمن
تذكّر شيئاً غاب عنه ثم إستطرد
--إستنينى
بكره يا بنتى ومعاكى القمّورة الصغيرة...جى لكم بعد صلاة الظهرومعايا السواق
الجديد
أغلق الهاتف
وألتفت إلى إبن أخيه......
تغيبت سارة
عن مدرستها وجلست مع أمها فى الصالة ترقباً لمجئ عم دياب وبصحبته السائق المنتظر .
الدقائق تمر
ثقيلةً بعد صلاة الظهر ، ولم يأتى عم دياب بعد ، بينما علا نفير سفينة ضخمة متصلاً
ومعلناً مغادرتها القناة فى طريقها إلى البحر الأحمر ، ثم ما لبث أن تلاشى ، وبدأت
أذانهم تلتقط ملامح صوتٌ آخر أخذ يعلو
تدريجياً ، أرهفا السمع ، كانت خطوات عم دياب تقترب شيئاً فشيئاً من باب شقتهما ،
أسرعت سارة بفتح الباب قبل أن تمتد إليه يد العجوز .
دخل العجوز
متأبطاً ذراع إبن أخيه ، شابٌ فى العشرينات ، حاد الملامح ، فى عينيه عمق آخاذ ،
طويلاً بلا مبالغة ، نحيلاً بلا إفراط ، يرتدى قميصاً أبيض اللون وسروالاً رمادى
اللون .
جلس عم دياب
بجوار سهير يلتقط أنفاسه اللاهثة ، أشار للشاب بالجلوس وألتفت إلى سهير قائلاً
-- عمر..إبن
أخويا...السائق الجديد
لم يكن فى
حاجة لإنتظار إجابة ، فما لمحه بعينيه الغائرتين فى ملامح سهير وسارة كان كافيا .
جاهدت سهير
أن ترى عينيه ، لكن الشاب ظلّ طيلة مكوثه مطأطا الرأس ناظراً إلى ما بين قدميه ،
تذكّرت فجأة أنها لم تقدم لهما مشروباً ، فأشارت إلى سارة التى سارعت بتجهيز
مشروباً بارداً قدمته لهما .
نهض الرجل
بعدما تناول مشروبه وتبعه بتلقائية إبن أخيه ، إلا أن سهير إستمهلتهما لثوانٍ ،
غابت فيها فى غرفتها ثم ما لبثت أن عادت وفى يدها رخصة السيارة ومفتاحها ، قدمتهما
للشاب
-- إتفضل يا
سى عمر..آدى الرخصة والمفتاح
قاطعها عم
دياب قائلا
-- لا يا أم
تامر..خلّيهم معاكى دلوقتى ..عمر لسّه هينزل مصر ويظّبط أموره ويرجع تانى بعد يومين
بالكتير
-- وماله يا
حاج..يخلّيهم معاه...الدار أمان يا خويا..سى عمر بقى مننا وعلينا
وألتفتت
ناحيته ، لكن الشاب كان ومازال خافضاً بصره .
أردفت قائلةً
فى نعومة
-- مش كده
واللا أيه يا سى عمر ؟
إحمر وجهه
خجلاً ، زاده فى عينى سارة المتفحصة جمالاً فوق جمال .
أصر عم دياب
على عدم أخذ المفتاح والرخصة قائلاً
-- لما يرجع
عمر هأجيبه علشان تتفقوا سوا على النظام اللى هتمشوا عليه وإبقى ساعتها يا ستى
أديلو المفتاح والرخصة
تأبط الرجل
ذراع أبن أخيه ، وأنصرفا هابطين درجات السلم درجةً درجة .
يومان مضيا
وفى مساء اليوم الثالث ، إتصل عم دياب ليخبرهم أنه وعمر فى الطريق إليهم .
سارعت سارة
بإرتداء أجمل ما عندها من ملابس ، تاركةً شعرها الحريرى منساباً خلف ظهرها .
أدركت أمها
أن الفتاة تشعر بميلاً ما تجاه عمر ، لكن راعها ما أرتدته من ملابس تظهر من مفاتن
جسدها الغض أكثر مما تخفى ...خاطبتها ناصحة
-- إتقلى يا
بت...خفى ع الراجل
ضحكت سارة فى
دلال وهى تداعب أمها
-- ما تخافيش
ده أنا بنت سهير وتربية إيدها
سكتت هنيهة
ثم أردفت وأنهارُ شوقٍ تتدفق من عينيها
-- أصله حلو
قوى يا ماما
قطع تناغمهما
طرقاتٌ خفيفة على الباب ، هرعت سارة إلى الباب وفتحته , إنزلق عم دياب إلى الداخل ،
بينما إعترضت سارة طريق عمر، ووقفت لثوانٍ حائلاً بينه وبين الدخول مستعرضةً
جمالها أمام عينيه ، ثم أفسحت له الطريق ليدخل وهى تهمس فى نعومة
-- إتفضل يا
أستاذ عمر
إنصرف
الرجلان بعدما أتفقوا على كافة الأمور المتعلقة بتشغيل السيارة ونظام المحاسبة ،
وعلى وعدٍ بأن يأتى عمر صبيحة اليوم التالى ويصطحبهم فى جولةٍ بالسيارة فى أرجاء
المدينة كما وعدت إبنها ، وأيضاً لتعريف عمر بشوارع المدينة وميادينها المختلفة .
سارة جالسةٌ
على مقعدٍ منفرد وعلامات القلق تشكل ملامح وجهها , تلقى النظرة بين دقيقةٍ وأخرى
إلى ساعة يدها , وأمها مستلقيةٌ على الأريكة ، ومتكئةٌ بساعدها الأيمن على
مسندها ،
بينما يدها اليسرى ممسكةٌ بالريموت كنترول تتنقل بين القنوات بحثاً عن لا شئ ، فهى
أيضاً ساورها القلق وإن كانت تتظاهر مصطنعةً هدوءً لا وجود له فى الواقع .
طرقاتٌ خفيفة
على الباب ، إندفعت سارة مهرولةً صوبه ، فتحته.
دخل عمر
مطأطأ الرأس يمشى فى إتزان صوب مقعدٍ خال قريباً إلى حيث تجلس سهير ، ثم ما لبث أن
أخرج من جيبه أوراقاً مالية ، ووضعها أمام سهير التى إلتقطت النقود ودسّتهم فى
جانبٍ من صدرها ، ثم توجهت له قائلة
-- كام دول يا
سى عمر ؟
همس عمر
بصوتٍ يكاد لا يُسمع
-- سبعة
وعشرون جنيهاً ونصف
سارعت سارة
بتدوين المبلغ فى الصفحة الأولى من كراسة أعدتها أمها
لهذا الغرض .
تنفست سهير
بإرتياح وعلامات الفرح تكسو ملامح وجهها ، فها هو أول عائدٌ تجنيه .
إنتبهت فجأة ،
لقد نسيا أن يقدما لعمر شيئاً يشربه ، أشارت لسارة التى قامت فى خفةٍ ورشاقة ،
بينما همّ عمر بالنهوض مستأذناً فى الإنصراف ، إلا أن سهير أصرت ورجته أن يمكث
لدقائق ، ريثما تحضر سارة له شيئاً يشربه.
سرعان ما
عادت سارة حاملةً صينية عليها كوب شاى ساخن ، وكوب ماء , إنحنت إنحناءةً خفيفة ،
ولكنها كانت كافية لإبراز جمال نهديها ، وضعت الصينية وما عليها أمام عمر ، وهمست
فى أنوثة ودلال
-- إتفضل يا
أستاذ
إرتشف عمر
بضع رشفات من كوب الشاى ، ثم شرع مبيناً لسارة كيفية تقسيم الصفحة وكيفية تدوين
البيانات وتصفية الحساب .
كانت سارة
تنصت بإهتمام بالغ ، بينما كانت سهير تتابعهما عن قرب ،
وكانت أيضاً
أول مرة ترى فيها عينيه .
إرتشف عمر
رشفةً أخيرة من الكوب ، ونهض مستأذنا ، ومضى فى طريقه إلى باب الشقة ، وسارة تسبقه
بخطوةٍ واحدة ، فتحته وألتفتت إليه وفى عينيها مودةٌ ظاهرة ، وحباً لا تخطئه عين
ناظر
-- تصبح على
خير يا أستاذ عمر
إنصرف عمر
هابطاً درجات السلم فى رشاقةٍ تتناسب مع شبابه وتناسق جسده النحيل .
أغلقت سارة
الباب وعادت إلى حيث تجلس أمها والسعادة تشكل قسمات وجهها النضر .
إستلقت سارة
على سريرها تأهباً للنوم ، لكن أقكاراً شتى تراودها وتتصارع داخل عقلها الصغير ،
أرًقتها صور أشباحٌ تروح وتجئ...لا ملامح لها ..ومضاتٌ تبرق للحظات ، لتضئ وجهاً
واحداً...وجه عمر .
أغلقت سهير
التلفاز ونهضت فى رشاقة ، أغلقت نور الصالة ثم توجهت مباشرةً إلى غرفة ولديها
وأطفأت نور الغرفة ، وأغلقت الباب خلفها برفق .
خلعت ملابسها
وأرتدت ثوباً فضفاضاً ، ثم أطفأت نور غرفتها وأستلقت على سريرها .
نفير سفينةٍ
عملاقة يعلو متصلاً ، تذكّرت حسن...سنة ونصف سنة مرا
على غيابه ، رعشةٌ خفيفة سرت فى حناياها ...سنة
ونصف بلياليها
الباردة
..تذكّرت أخر ليلة كانت بين ذراعيه ...حاول جاهداً إشباع رغباتها المشتعلة ، لكن
التعب كان نصيبه والإلتياع كان نصيبها، وتعاظم الرغبة كانت ناراً تأكل فى جسدها...داهمها
على غير إنتظار وجه عمر وعينيه اللامعتين ، لحظات وتلاشيا...ثم ما لبثا أن عادا يطرقان أبوابها الموصدة بعنف ..رأت فى
أعماق عينيه شيئاً لا تخطئه إمرأة ، إجتاحتها فى لحظات رعشةٌ قوية ، سرت فى جسدها
الجائع مسرى النار فى الهشيم ، إعتدلت جالسة القرفصاء تؤنب نفسها ...
" إنه
يصغرها بأكثر من عشرة أعوام ، فهى قد تجاوزت الخامسة والثلاثين،
بينما هو لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاماً بعد ،
كما أنه من الواضح أن سارة تهيم به حبا "
أبعدت عينيه عن مخيلتها ، لكن الدبيب الذى سرى
فى أوصالها لم
يتوقف ، نهضت
وأخرجت بدلة الرقص الزرقاء ذات الحلقات المعدنية ، إرتدتها ، وأدارت الكاسيت ،
وشرعت تتمايل على الأنغام الراقصة مغمضة
العينين تتلوى كأفعى ، والدبيب يواصل نخره فى عظامها ، فتحت
عينيها ،
رأته مستلقياً على فراشها عارى الصدر فاتحاً ذراعيه لإحتضانها...ألقت بجسدها النهم
بين ذراعيه .
توالت الأيام
والليالى بلا تغيرٍ يذكر ، إنتهت الإمتحانات ودخل الصيف
من أوسع
أبوابه إتساعاً ، ليحيل أجواء المدينة إلى قطعةٍ ملتهبة ..
صباحها قائظ
وليلها حارٍ رطب .
...............
محمد البنا