ينسابُ الدمعُ في هدوءٍ على وجنتيها، فلا تتكلفُ عناءَ إخفائِه، أو ربما لم تعد تأبهُ بنظراتِ الشفقةِ التي تتابعُها من الركابِ حولها، تضغطُ بشدةٍ دون وعيٍ على المظروفِ الأبيضِ المزينِ بشعارِ المستشفى الحكومي الذي غادرته منذ ساعةٍ أو أكثر، على المظروفِ كتب اسمُها بإهمالٍ يتناقضُ وهولَ ما يحوي، تشتعلُ خلايا مخِها بأفكارٍ سوداويةٍ أكثر مما تشتعلُ بفعلِ علتِها، ناولتها الممرضةُ المظروفَ الذي يحملُ نتائجَ فحوصاتِها بإهمالٍ وامتنعت عن الإجابةِ عن تساؤلاتِها، هاجمها الخوفُ بضراوةٍ فخارت رجلاها ولم تقويا على حملها، كيف ستنتظرُ إسبوعًا للعرضِ على الطبيبِ ليخبرَها بما كشفتهُ فحوصُها؟ ماذا ستفعلُ إن قالها؟ كيف سيتحملُ جسدُها العلاجَ الذي يُصَبُ كنارٍ داخل الخلايا ليحرقَ الجيدَ منها مع الخبيث؟ وهناء....وحيدتها...
(آهٍ يا ابنتي، ظلمناكِ يومَ أحضرناكِ لهذه الدنيا، ما أورثكِ أبوكِ إلا فقرًا وما استطعتُ أن أهبَك من جمالِ الشكلِ شيئا).
أغمضت عينَيها فداهمتها صورُ المريضاتِ في القسم، وجوهٌ صفراءٌ وأجسامٌ أكلها العلاجُ أكثرَ من المرضِ، نساءٌ تبدو الحسرةُ في ملامحِهن، فقدنَ رموزَ أنوثتِهن، اجتثتُ ايدي الجراحين ارحامًا واثداءً، واجتث (الكيماوي) تيجانَ رؤسهِن، ما همها إلا صورَ المرافقِينَ لهن، على اختلافِ أعمارهِم وأجناسهِم جمعتهم الحسرةُ والألم، فتحت عينيها لتزدادَ دمعاتُها وأنفاسُها تهتفُ (هناء)...
مرت محطاتٌ لم تحصْها، قارب القطارُ على آخرِ محطاتهِ، ارخت عينيها لما تحملُ من همٍ مغلف، حاولت أن تتحسسَ أملًا بالنجاةِ بين أوراقهِ،
(اللعنةُ عليكم جميعًا، أما من عاقلٍ بينكم؟ أما من رحيم...؟
كيف تضِنون على من يقبضُ الخوفُ قلوبَهم بكلمةِ نعم أو لا؟
هو سؤالٌ بسيطٌ جدًا نسأله جميعًا، سنحيا..؟
تبا للفقرِ الذي ألجأنا إليكم..)
تعاودُ الهتافَ، هناء...
يقفُ القطارُ ينساها من رافقوها الرحلةَ ويمضون لحالهِم، تهمُ بالنهوضِ فيكبلُها ثقلُ ما تحملُ بمقعدِها، تنظر له بضيقٍ ما كان ينقِصُها إلا المرض!
تحاملت لتقف، جرجرت رجليها والمظروفَ يزداد ثقلًا، في لحظةِ عبورِها البابَ قرر أن يريحَها، فانسل من بين أصابعِها ليسقطَ عبر الفراغِ الضيقِ الفاصل بين عربةِ القطارِ والرصيف، صاح عليها أحدُ الشباب:
لقد وقع منك شيءٌ يا سيدتي.
أجابته في راحةٍ وخفة:
أحملُ ما يكفيني.
......
إيناس سيد جعيتم