بينما
كان يعبث في أشيائه وكتبه وجد بين صفحات كتاب ورقة مالية فئة " العشرة
جنيه " ولما كان من أؤلئك الذين لا يحتفظون بنقودهم بين طيات الكتب ـــ لا
لفلسفة خاصة ــــ ولكن لقلة الموجود من الأصل ، اضف إلى ذلك أنه من ذلك
النوع المؤمن بالمثل القائل " اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب " ! دُهش
كثيرًا وتعجب من أمر العشرة جنية مجهولة النسب هذة ، وأخيرًا قال لنفسه :
- قد
يكون ما في الغيب قد أتى في كتاب... لنتوكل على الله ونصرفها ولننظر في
كتاب آخر بعد ذلك عساه أن يتحفنا بمائة جنيه كاملة ، وتهلل بشرًا ..وقام
لتوه ليصرفها ، وكانت المشكلة ، ماذا يشتري ؟!
- خبزًا؟
- موجود ولايجد من يأكله .!
- شايًا وسكرًا ؟
- الأمس
فقط زوجته أحضرت التموين ، لا شايًا وسكرًا فحسب ولكن دقيقًا وأرزًا
وزيتًا ... حتى الفلفل الأسود أعطاها - البقال التعاوني - إياه ... ويجعله
عامر !
فكر قليلًا وقال لنفسه :
- نعطيها لزوجتنا " تفك " أزمتها الرمضانية " !
تدارك الأمر سريعًا :
- ماهي واخده مصروف الشهر بطوله ، كلها يومان وتاخد المصروف الجديد !
ثم أيه أزمتها الرمضانية دي ؟
دا حتى رمضان خيره كتير، وبقدرة قادر رمضان كريم !
ثم
ما أدراني لو أعطيتها العشرة جنيه أسلم من القيل والقال ، فكل مليم في
جيبي عرفاه ، وحافضاه ، فمصروف اليد الذي تتركه لي يكفي بالكاد كوب الشاي
اليومي ، والمواصلات لا أدفع فيها مليمًا والبركة للمصلحة ،
- أوه ، ... ما لي أنا وهذة العشرة المنكودة التي أتت في غير زمانها لتعكر عليُّ صفو ليلتي !
وغُلب حماره ، أخيرًا قال :
- تاهت
ولقيناها ، نشتري علبة سجائر ، مرة نشتريها كاملة من نفسنا ! وارتاح لهذا
الخاطر ، على أطراف أصابعه حتى لا تشعر به زوجته وضيوفها المدعوون لحفل
الكعك السنوي ، خرج ليشتري علبة سجائر ! وعاد إلى مكتبه حذرًا كما خرج ،
على مكتبه المتهالك قعد وأخرج " مقصًا " وشرع في فتح العلبة ، حرص أن تكون
الفتحة مثلثة ، ولا يدري ما الحكمة في أن تكون مثلثة إلا أنه رأى علبة
سجائر رئيسه في المصلحة هكذا ، وبسبابته دق على منتصف العلبة كما يفعل
رئيسه تمامًا ، سبحان الله ، خرجت سيجارة وحيدة فقط من الفتحه المثلثة
لتلتقمها شفتاه! وضع ساقًا على أخرى ، أشعل عود الكبريت ، وشرع في الطقوس
الدخانية ! وبدأ في معالجة سعال النفس الأول فلم يكن إلى هذه اللحظة
"كييفًا تمامًا" وبدأ السيجارة الثانية ، والثالثة ، وتنبه على دهشته حينما
رأى الدخان يخرج من فتحتي أنفه ، تماما كما يخرج دخان سيجارة رئيسه من
فتحتي الأنف ، استمرأ اللعبة ، بدأ الرأس يدور وتميد الأرض تحت كرسيه ، كاد
يصرخ إلا اِنه تمالك نفسه حينما سمع صوت زوجته تناديه من غرفتها :
- عبد الموجود ... قوم هات السحور !
- دلوقتي يا وليه ما جبتيش ليه م الصبح ؟!
- ما انت شايفني محتاسة وغرقانة في عمل الكعك ، يعني قُلت بايدك !
- ومين قال لك اعملي كعك ؟!
- طب قوم ... معلهش ، اخزي الشيطان وخلّي الليلة تعدي على خير !!
- هات الفلوس !
- سيبالك عشرة جنيه في كتاب على المكتب ، هات فول وخليه يتوصى ، الناس اتسعرت ، طبق فول بخمسة جنيه ما يوكلش عيل لسه مفطوم !
- عبد الموجود ، ما لك سايبني آهاتي لوحدي زي الساقية الخربانة!
- ما تقوم يا راجل ... ياختي !
وطالت فترة الصمت ، فقد كان الرجل الجالس إلى مكتبه منكفئًا على وجهه بلا حراك ، ويداه مازالتا قابضتين على كتابه القديم ...!
.....
طه سنجر