الإنسان العاقل المضحي عليه أن لا تسكره خمرة الشعور بالابداع أو التفوق أو المعرفة، وإنما عليه أن يتذكر، أكثر من غيره، أؤلئك العمالقة من البشر ومن الذين خلد أعمالهم تواضعهم، وحفظت قلوب الناس قبل عقولهم أقوالهم وكتاباتهم وتسنن الكثيرون بأفعالهم وتصرفاتهم.
وحديثي اليوم عن ظاهرتي النرجسية والعبثية في نفوس وسلوك بعض المثقفين وتأثيرهما على ثمرة عطائهم، ناهيك عن تأثير هاتين الصفتين في نفوس وسلوك ممن توهم أنه مثقف ينبغي عليه أن يتميز عن الآخرين، يجيء في اطار محاولات تثمير العمل الثقافي ورفع الشأن الإنساني له.
لقد تميز الإنسان بعقل يفكر به ويحكم من خلاله على أفعاله وأقواله وأفعال الآخرين وأقوالهم. فما كان منها نافعاً مكث في الأرض، وما كان منها زبداً ذهب جفاء.
فالابداع الفكري والفني للإنسان لا ينبغي أن يكون غاية في حد ذاته، بل عطاءً إنسانياً يساهم في إغناء الحياة بمادة ووسائل تطورها. كما يجب أن لا يبقى حبيس هواجس ذاتية ضالة أو مضللة. فعشق الذات الذي يغذيه وهم “الأنا” هو من أخطر الأمراض التي تصيب المثقفين والفنانين وتؤدي إلى ضياع الطاقات وإلى وخسارة كبيرة.
لو أن كل مثقف أو فنان طرح على نفسه الأسئلة التالية:
بماذا أبدعت في عملي؟ لماذا أبدعت في عملي؟ لمن أبدعت في عملي ؟ ما هي القيمة الإنسانية لما أبدعته في عملي؟
ألا تساعد الاجابات عن هذه الأسئلة المثقف أوالفنان في الوقوف على إنسانية عطائه وبالتالي تلقي الضوء على سجاياه النفسية في نرجسيته أو حبه واحترامه للآخرين من خلال هذا العمل الثقافي أو الفني؟
أما الظاهرة السلبية الثانية في أوساط بعض المثقفين أو الفنانين فهي ظاهرة العبثية في أعمالهم ودورهم الإنساني. وليس المقصود بهذه الملاحظة حجر عقول وابداعات المثقفين أو الفنانين في أقفاص جاهزة أو قوالب جامدة، حيث يفقد عندها الابداع روحه وتتوقف الحيوية في عقول وقلوب المبدعين.
أريد بالعبثية هنا تلك النشاطات الثقافية والفنية التي لا تنتمي إلى هدف ذي معنى، ولا إلى غاية نافعة، وكذلك تلك النقاشات السفسطائية العقيمة أو تلك المرتدية أثواب الحزن والتشاؤم والمتباكية على أوهام وأماني غير واقعية أو عملية. أليس ذلك ضرباً من اللهو والضياع.
لقد تنوعت مداخل المعلومات عند الإنسان. فالعين تمسح ما ينعكس عل شبكيتها من صور الأشياء وتنقلها إلى غرفة عمليات الفهم والتحليل والاستنتاج. وهكذا الأذن والأنف واللسان بتذوقه والأصابع بلمسها، لابل والقلب بإحساسه باعتبارها مجسات ومداخل للمعلومات. إن ذات المعلومات والصور والأصوات والروائح تفسرها العقول والنفوس المختلفة، ولأسباب كثيرة، تفسيرات متنوعة تصل حد التناقض أحياناً. فقدرات الإنسان الذهنية وطبيعة معارفه وسلامة طرائقه المنطقية في التفكير والتحليل والاستنتاج، ودرجة صفاء سجاياه النفسية والروحية ومقدار محبته للناس وحدود نكرانه لذاته كلها عوامل تحدد طبيعة ومعنى المدخلات من المعلومات وصهاريج معالجتها ومعادن وأثواب مخارجها …
أذكر تعليقاً طريفاً لأحد أساتذتي ، وهو يتصفح كتاباً أنيقاً لأحد “الشعراء” ، حيث قال أنه لو جرى توزيع هذا الكتاب وهو فارغ الصفحات لاستفاد منه الناس كثيراًً.
وهكذا إذن يفترض أن يكون لكل عمل غاية وهدف، ولكل نشاط ثقافي أو فني رسالة يؤديها لكي ينتفع الآخرون بها، ولكي لا يضيع الوقت ولا الجهد المبذول في عمل عبثي لا طائل منه.
إننا بحاجة إلى مثقفين وفنانين يعشقون حرية الابداع، ويعملون لها من أجل الآخرين الذين سيغمرونهم بالمحبة والتقدير والعرفان دونما نسيان نصيبهم من الدنيا، وبحاجة إلى اؤلئك المثقفين والفنانين الذين يعوون حاجات الناس وتطلعاتهم…. أتمنى أنني أصبت!
.........
د. يسري عبد الغني