قالها قاطعة ، ولكن كعادته كلما تفوه بها ، بنبرةٍ هادئة ، وما لبث أن أدار ظهره لها ، مُدّعيًا نومًا لا وجود له .
كان شكه فيها أكبر من أن يتغاضى عنه أو يتناساه ويهمله ، وكان تسامحه أضعف من أن يغفره لها ويعفو عنها مُلتمسًا لها عذرًا .
ستة أشهر مضت ، لم يقربها فيها ، بل لم تقع عيناه صدفةً على جزءٍ عارٍ من جسدها ، سوى وجهها وكفيّها ، فمنذ اللحظة التي بدأ جنين الشك يتحرك في صدره ، كان التقيؤ أهون عليه من ملامستها .
أعياها ذكاؤها الحاد ، الذي إُشتهرت به منذ نعومة أظافرها ، ولم يجد لها مخرجًا ، بل لم يحر سببًا لتغيّره المفاجئ .
يتجنبها كأنها جذامٌ يخشى أن يُصيبه ، فباءت كل محاولاتها لإغرائه بفشلٍ ذريع ، وفيما مضى كانت نظرةٌ من عينيها كافيةً لينسى دنياه ، ويرتمي بين ذراعيها .
يكرهها ؟ …لا …فالحب الذي يكنه لها ، ما تزال تنبو به نظراته القليلة إليها .
زواجه منها كان بابًا للسعد فُتحَ له من حيث لا يحتسب ، فمع إنجابها لطفلها الأول رُقيّ رئيسًا للقسم الذي يعمل به ، وترافقت ترقيته مديرًا للإدارة مع إنجابها لطفلها الثاني ، وواكب إنجابها لطفلها الثالث اختياره مديرًا عامًا للحسابات .
بُعيد ولادة طفلها الثالث ، أفضت له برغبتها في الإستقالة من عملها ” منسقة علاقات عامة ” للتفرغ لتربية أولادها الثلاثة ، لم يعارضها هذه المرة كما عارضها في المرات الثلاث السابقة ، فدخله الآن كافيًا لإعالة الأسرة ويزيد ، كما تنامى إلى مسامعه في الآونة الأخيرة ، تدهور العلاقة بين زوجته ، ورئيس مجلس الإدارة الجديد ، عزا البعض سبب التدهور إلى سوء معاملتها له ونفورها منه منذ عُين في منصبه ، وبرر البعض التدهور ونسبه إلى شخصيته الجادة ، وإختلافه الجذري عن الرؤساء السابقين الثلاثة الذين تعاقبوا عليها قبله .
مضت الشهور الثلاثة الأخيرة كسابقتها ، يقضيان أمسياتها جالسان متجاوران كعادتهما ، يتابعان بمُقلٍ لا تعي شيئًا مما يترى على شاشة التلفاز ، يختلس بين الفينة والأخرى النظر إلى بطنها المنتفخ ، بينما هىّ تجاهد بحثًا عن وسيلةٍ لإخراجه من كهف صمته المطبق ، ولإنتشاله من بحر شروده الدائم ، فاجأها الطلق فأسرع بها إلى طبيبها المتابع لمراحل حملها ، أنجبت فتاةً تحمل كل جينات والدها عدا شعره المجعد ، كان شعرها ذهبي اللون شديد النعومة .
هدأت سورة شكه ، ومات جنينه بمجرد أن وقعت عيناه عليها ، فطفق يغمر زوجته بقبلاته الممتنة ونظراته ترجو منها المغفرة .
همهمت بكلماتٍ لم يع منها حرفًا ،وانهمار دموعها بغزارة حال بينه وبين نظرات الندم التي فاضت بها عيناها ، فانحنى وقبّل جبينها المتصفد عرقًا ، وهمس في حنان وعطف ” ليس الآن يا حبيبتي ” ، فاسلمت الروح دون ان تعترف له بخطاياها .
...........
محمد البنا