"بَونٌ شاسع بين الاحترام والاعتقاد " ، أنا ( راشيل ) ، يتأكد لك
من اسمي أني لست مسلمة ، وربما لستُ عربية كذلك ، نعم لستُ
مسلمة كما أني لست عربية ، لكن بكل تأكيد ستتعجب عندما
أخبرك بأني لم أدع ابنتي ( لَمَا ) ( lama ) حتى أتْقَنَت اللغة
العربية الفصحى وتعرفت كلَّ أصول الإسلام الحنيف ،ولم يمانع
زوجي ( جورج ) في ذلك أبدا ، بل كثيرًا ما شجَّعني على ذلك ،
عشرون عامًا هي عمر ( لَمَا ) الآن ولا تزال كلُّ الأحداث تتقافز
لخاطري وكأنها كائنة الآن .. شغفي بالعرب قوي ولا حدود له ،
قرأت الكثير والكثير عن تاريخهم وفتوحاتهم ، معجبة ٌ جدًّا
بهؤلاء الرعاة الذين استُنفروا من رحم الصحراء وجفافها وحرّها
، وأنجبتهم تلك الخيام الخشنة في قلب العراء ، فانطلقوا يعلمون
العالم كله الحضارة في الوقت الذي رزحت فيه أوروبا في هوة
عميقة من التخلف والانحلال الأخلاقي والثقافي .. تجسَّدت في (
حميد ) تلك الشخصيةَ العربيةَ المثالية التي رسمتُها في خيالي منذ
فترة بعيدة ، نعم .. منذ بدأتُ القراءة عن العرب وتاريخهم ،
قابلتُه
قبل عشرين عامًا ، ولم أجده ككثير منهم ، ممن ينجرفون خلف
فتنة الغرب وسحره العارض دون الاهتمام بالجوهر الإنساني ..
أول مرة رأيت فيها ( حميد ) كانت في قسم الطوارئ بالمستشفى
عندما دفع بقدمه الباب واندفع بقوة وهو يحمل على ذراعيه
القويتين الأمينتين امرأةً انجليزية مغمى عليها أحضرها في سيارة
خاصة ولم ينتظر حتى يُجْلب له سريرٌ متحرك ، وجَّهْنَاه مباشرة
إلى الغرفة فقمتُ أنا ومن معي بتوقيع الكشف عليها ، بينما وقف
بجوارنا مُصِرًّا على البقاء حتى يطمئن عليها ، لم أدرك وقتها أنه
عربي ، حتى أني لم أشعر بلكنة غريبة تلمح بأنه غير إنجليزي ،
فقط فيما بعد عندما استفسرنا منه عن تلك المرأة .. :ـ ما اسمها ؟
، وما علاقتك بها ؟ .. :ـ لا أعرف اسمها وليس لي بها أي علاقة
، وللأسف لا أعرف عنها أي شيء ، وجدتُها على الطريق
السريع تزحف خارج سيارتها إثر انحرافها وانقلابها ، وأنا اسمي
( حميد ) .. دون شعور مني سألتُه : هل أنتَ عربي ، :ـ نعم أنا
عربي ، وأعمل مهندسًا تنفيذيا بمؤسسة ( هارد واي ) للإنشاءات
والمقاولات .. ( وااااه ) ـ يا حميد ـ فرقٌ كبير بينك وبين ( سي
أمجد ) رجلِ البر والإحسان ، رجلِ الخدمات ، ومرشحِ مجلس
الشعب ، استقبلني ( سي أمجد ) في قصره المنيف في قرية (
الحمايده ) ، وأنزلني منزل الأهل ، لم يشعرني في البداية بغربة
بينهم ، مرَّت الليلة والليتان والثلاثة وهو في استقبال مناصريه
ومؤيديه بين الهتافات المخدوعة تارة والوعود الكذوبة تارة
أخرى
، حتى صفعتُه على وجهه تلك الليلة التي تسلل فيها إلى غرفتي ،
وأنا التي فتحت له باب الغرفة بنفسي وبإرادتي ، واستقبلته
بحسن
نية قبل أن يكشف عن نيته الخبيثة السوداء ، حسبَنِي عاهرةً
جاءت من (لندن ) لتقيم عنده في بيته ، فيعاملها معاملة مِلْكِ
اليمين ، أو كما يعامل خادماته المومسات اللاتي يدْلِفْنَ إلى غرفته
بقمصان النوم الشفافة ويمكثن بها الساعات ، حاول التهجم عليَّ
لمَّا لم تفلح تجارب تزلفه الناعمة وهديتُه الألماسية باهظة الثمن ،
دفعتُه عني بقوة وطردتُه من الغرفة ، وفي الصباح طفقتُ أحزم
حقائبي ، وأمُّهُ الطيبة تناشدني باكيةُ وتستجديني بحُرْقة البقاء
معهم وعدم الرحيل ، لكنَّها كانتْ صدمة كبرى أن أعرف أن لـ (
حميد ) أخا بهذا السلوك وتلك الأخلاق الوضيعة وأيضا يسعى
لتمثيل الناس في مجلس الشعب !!، عدتُ إلى ( لندن ) في أوَّل
طائرة ..
( حميد ) كان كتلة من المشاعر والأحاسيس التي تحكمها عادات
وتقاليد حكيمة ، واحترامُه لتقاليده والتزامه بها ، هو الذي ألزمني
تقديرها وتقديره هو أيضا ، لدى ( حميد ) قدرة عجيبة على
التعايش مع مجتمع غربيّ منفتح له عاداته وتقاليده لكن بعاداته
وأصولِه هو والتي تربَّى عليها ، دون أن يَحكم عليه أحدٌ بأنه
منغلقٌ أو متخلف أو غريبُ الأطوار ، يندمج مع الجميع بلياقة
جَمّة ، يضحك ، وخفيف الظل ، وقت الصلاة مقدس عنده ،
يتزاور ويتهادى ويتواصل .. لكن كيف لي بالولوج لقلب هذا
العربي الحازم مع أنه لطيف ، والجاد مع أنه رقيق؟! .. أذكر أنني
بعد انصرافه من المستشفى تلك الليلة شعرتُ برغبةٍ قوية في
الحديث معه والجلوس والاستماع إليه .. إحدى صديقاتي
بالمستشفى تسكن قريبًا من منزله .. طرقتُ باب شقته فتح لي
وقبل أن أتَعَذَّر بطرق بابه بالخطأ وأتأسف بادَرني قائلا :ـ
welcome doctor) ).. ـ ( واو ) إنه ما زال يذكرني ،
تظاهرت بالنسيان :ـ عفوًا ، هل تعرفني ؟ ، :ـ بالطبع ، أناااا ....
، :ـ نعم نعم لقد تذكرتُ الآن ، :ـ هلا تفضلتِ بالدخول ؟ :ـ لا ،
(thank you ) لكنني كنت ( أأأأ) ! .. :ـ ماذا ؟ هل حدث شيء
لتلك السيدة المسكينة ؟ .. :ـ مَنْ ؟ لا لا ، هي بخير لقد عادت إلى
منزلها منذ فترة .... لكنني جئت لزيارة صديقتي ( فِييلا ) ويبدو
أني أخطأت الشقة ، لقد انتقلتْ هُنا قريبا .. :ـ نعم ، ( فييلا ) ،
أعرفُها ، لقد رحَّبْتُ بها وقتَ مجيئها إلى هنا وهي جارة طيبة
وودودة ، لكنها بالدَّوامِ الآن وعلى وصول ، ربما تَوَدّين
انتظارها
إن أردتِ ، أنا أشرُف بكِ حقًّا ، تفضلي تفضلي .. كان يُزَرِّرُ
قميصَه ، نزل لتوّه عن آلة الجري ليفتح الباب ، استأذنني في
إحضار كوب قهوة لي ، رحَّبْتُ بكلِّ سرور ، فلقد كنت في حاجة
مُلِحّة للمُكْثِ معه أطول فترة ، اكتشفتُ أنه مثقفٌ لأبعد الحدود ،
قارئ جيد ، وفي كل العلوم ، ويتحدثُ الفرنسية أيضًا ، لم أَمَلّ
حديثه ، ساعةٌ كاملة قضيتها معه في شقته ، أهداني كتابا باللغةِ
الإنجليزية ، أذكر أني قرأت ذلك الكتاب في يومين ، نعم ..
يومين .. رغم كبر حجمه إلا أني انجذبت لقراءته بسرعة فأكملته،
كان يتناول أهمية التكامل الثقافي وقبول ثقافة الغير والاستفادة
منها بأسلوب سلس وشيق، وأنه السبيل الوحيد للتعايش السلمي
الإنساني " فمن عَرَفَ ثقافة قومٍ أمِنَهُم " ...
كان (حميد ) يُوصلني للكنيسةِ بنفسه أيامَ الآحاد ، ويحضر معي
العظات ويردد بعضَ التَّرانيم ، وأنا كنت أجلس بجانبه وهو يرتل
القرآن بصوته الرخيم العذب ، وحفظتُ منه الكثيرَ من سور
القرآن الكريم بالتفسير ، كلُّ ذلك ولمَّا يعرفْ أني بنتُ صاحب
المؤسسة التي يعمل بها ، اختلقْتُ صُدفة ذاتَ مرة لأقابله
بالمؤسسة ، استدعاه أبي في مكتبه وفي حضوري ، فوجئ أبي
أنه يناديني باسمي فقال له :ـ ما هذا أتعرف ( راشيل ) ـ يا حميد ـ
؟ ، :ـ نعم سيدي نحن أصدقاء ، لكنني لا أعرف سبب وجودها
هنا :ـ ( إ مممم ) ، أرجوك لا تغضب فأنا من أمرها ألا تخبرك
كونها ابنتي ، وأتمنى أن لا يكون ذلك قد أزعجك ، فهي تثني
كثيراعلى أخلاقك ـ يا حميد ـ ، وأنت من أكفأ مَنْ قابلتَ ، بالتوفيق
.. لم أشعر بتغير في علاقتنا بقيَتْ علاقةَ صداقةٍ فحسب ، غير أنه
كان يحرص على لقائنا في أماكن عامة ومفتوحة ، سألني مرة إذا
ما زلتُ بكرًا أم لا ، تعجَّب كثيرًا من كوني بكرًا مع أنَّ عاداتنا
تسمح بالعلاقات الحميمية بين الصديق وصديقته قبل الزواج ،
فوجئتُ بسؤاله ، ولم أزد في إجابتي عن قولي :ـ لم أرغبْ في
ذلك .. قَوِيَتْ علاقتنا مع مرور الأيام ، لم تسعني الفرحة عندما
طلب ( حميد ) الزواج مني ، فمنذ عرفتُ معنى الارتباط بين
الرجل والمرأة وأنا أتمنى الارتباط برجل عربي لا سيما وإن كان
هذا العربي مثل ( حميد ) ، ربما يسَّاءَلُ البعض :ـ ولماذا لم تَعْتَنِقْ
هذه الـ ( راشيل ) الإسلام وهي تُكنُّ كل هذا الحب للعرب
والإسلام .. ربما لا يفهم هذا البعضُ الفرقَ بين الاحترام
والاعتقاد
، كما أنَّهم ، من المؤكَّد ـ لم يحترموا عقيدتي كما احترمها (
حميد
) وقدَّرها .. انتظرتُ ( حميد ) بثيابِ الزفاف والسعادةُ تكتنفني ،
بعدما حثَّنا التفاهم العجيبُ والانسجامُ بيننا على اتخاذ تلك الخطوة
، التي لم يعترضها أحد حتى والدي ، التقينا مرارا في بيت
العائلة
وتعرّف الجميع (حميد ) وكذلك أصدقائي وزملائي ، الكل كان
يُكِنُّ له كل احترام وتقدير ، لكن تلك الفرحة لم تكتمل ، أصيب (
حميد ) على الطريق السريع وتأخَّر إسعافُه حتى نزف كثيرا
ومات ، تلك الفترة العصيبة التي أعقبت الحادث أخضعتني
للتأهيل النفسي لمدة ثلاثة أشهر ، تعرفت بعدها إلى ( جورج ) ،
وتزوجنا ، ووجدتني في أمس الحاجة لزيارة قبر (حميد ) هناك ،
ورجوت ( جورج ) ألا يحرمني تلك الزيارة لقرية ( حميد )
الذي
يعرف عنه كل شيء فـ ( جورج ) صديق مشترك ، وافق ،
وكان
هذا بعد زواجنا بأربعة أشهر تقريبا ، تأكّدْتُ ـ وأنا هناك ـ أني
حاملٌ ، لم أخبر بذلك ـ بعد ( جورج ) هاتفيًّا ـ أحدًا غير أمِّ (
حميد ) والتي فرحت لذلك جدا ،وتمنَّتْ بحزن أنْ لو كان (حميد )
على قيد الحياة ، فيكون المولود له وليس لـ ( جورج ) ، منظرها
لم يبرح ذاكرتي بعد كل هذه السنين ، أشعرتني أنني أجمل شيء
يذكّرها بـ ( حميد ) ، وأخبرتني أنه قبل وفاته لم يكن يهاتفها أو
يحدثها إلا عنِّي ، وأنني حلُمه الذي أهداه صبرُ السنين ، وأملُه
الذي كان يرجوه من الدنيا ، إنني ـ بحق ـ حزينة لتلك الأمّ الثكلى
التي ضاع منها ابنها النموذجُ الصادقُ ، وحلمُه المدفونُ معه
تحتَ
أطباق الثرى ، وأتألَّم كذلك أنْ لم يبق لها غير هذا الطاغية
المتلوِّن ( سي أمجد ) ، وأتمنَّى لـ ( لَمَا ) أن تتعرف إلى عربي
مثل ( حميد ) وتتزوجه ، فما زلتُ مفتونةً بالعربِ والمسلمين ،
ولن يتبدَّل موقفي أبدًا .
ــــــــــــــــــــــ
محمد شعبان