"الإعياء لا يعرف إلا ذوي النفوس الضعيفة المستسلمة " .. نعم هذه كلمتي التي دائما ما أرددها أمامهن ، أحب باستمرار أن أبدو الراعي الحامي الذي يُعتمد عليه لزوجة وبنتين ، قوي الشكيمة ، جهور الصوت ، صلب الإرادة ، عنيد ، لا يعرف الضعف أو الانكسار لا تهزمه مشكلة مهما عظُمت .. لكن في ذلك اليوم جلستْ ( مرح ) كعادتها تنتظر أختها الكبرى ( أروى ) ريثما تعود من المدرسة إلا أن ( أروى ) تأخرت على غير عادتها ، ولا أثقلَ على نفس ( مرح ) من تأخر أختها عليها .. اعتادتا أن تجلسا سويا تشاهدان ( الكرتون ) تتضاحكان في المشاهد المضحكة وتنكمشان كعصفورتين عند المشاهد المرعبة ، أتعلمون ما أكثر المشاهد رقةً بالنسبة لي ؟ . ( إمممممم ) كلما انفردتْ ( مرح ) أمام التلفاز بدون أختها تندمج مع الأحداث فتتحدث وتضحك وكأنها موجودة بجوارها تقول ضاحكةً : ( هههههه ) هل شاهدتِ هذه اللقطة يا ( أروى ) ، كاد ( توم ) يسقط في النهر ، و( جيري ) يراقبه من بعيد ويضحك ( هههههه ) ، وسرعان ما تنتبه لعدم وجود أختها فتتأفف قائلة :ـ أف متى تعودين يا ( أروى ) ؟ لقد تأخرت كثيرا .. ( مرح ) رغم صغر سنها تعتمد على نفسها في أمور كثيرة الأمر الذي شجعنا ـ منذ أن بدأت تخطو نحو عامها الثالث ـ أن نتركها وحدها بالمنزل ، تستيقظ فتجد الطعام مجهزا واللبن الدافئ تجلس تتناول طعامها وشرابها ولا توسخ ملابسها ، فعلنا ذلك كثيرا معها ، وعندما نعود مع أختها الكبرى نثني عليها ونظهر تشجيعنا لها بينما هي تجري لتعانق أختها ، وتقبل إحداهما يدَ الأخرى كما عودناهما ، وسريعا تستحث ( مرح ) أختها على تغيير ملابسها بسرعة والحضور أمام التلفاز قبل أن ينتهي برنامجهم الأثير ( دورا وموزو ) ، مشاهد طفولية جميلة وبريئة أستمتع كثيرا بمشاهدتها .. ( مرح ) متعلقة جدا بأختها الكبرى ، كما أنها كانت تهتم بتهيئة جو المذاكرة المناسب لها لتؤدي فروضها المدرسية ، وتقول لها بلثغتها اللطيفة : أنت في ( الثف الثادث ) ـ يا أروى ـ وينبغي أن تجتهدي لـ ( تحثلي ) على مجموع كبير ، نعم .. (أروى ) بالصف السادس ، وهي ابنتي الكبرى ، أما ( مرح ) فهى الصغرى ولها ـ الآن ـ خمس سنوات ، ذات مرة وفي غفلة منهما وضعتُ الهاتف بجوارهما في وضع التسجيل ، ودار بينهما حوار ماتع ولذيد ، سجلته كله ، لكنهما لا تحبان استرجاعه أمامهما أبدا لأن فيه ( أروى ) تعترف لـ ( مرح ) باعترافات تعتبرها خطيرة جدا وبأنها تحب ذلك الفتى الأبيض ذا الشعر الطويل الناعم المنسدل على كتفه والذي يجلس في المقعد الأول من الصف ، مجتهد وخفيف الظل وتحبه كل البنات لوسامته ورشاقته في لعب الكرة كما أنه الهدَّاف الأول بالمدرسة وكثيرا ما يحرز أهدافا حتى في فريق المعلمين عندما يلعبون سويا في الفُسَح والدورات الرياضية ، تغتاظ ( أروى ) كلما ذكّرتُها أني ما زلتُ أحتفظ لها بهذا التسجيل فتحمرّ وجنتاها خجلا ، وتلح إلحاحا شديدا في حذفه وكأنه سبة في جبين تاريخها الذي ما زال يتهجى الحياة بنعيمها وعذابها ، نعم .. تأخرَتْ ( أروى ) ذلك اليوم على ( مرح ) التي تجلس بالبيت وحدها تنتظرها ، تتشوَّق أن تعود فتشاهد معها (الكرتون ) .. في الفترة الأخيرة بدأتْ (أروى ) تشعر بنفسها ، وبأنها أصبحت فتاة كاملة النضج ، والأنوثة تشق أولى خطواتها على جسدها النحيل ، شعرها يزداد طولا ونعومةً فوق جبينها المشرق ، تحركه بأصبعها بثقةٍ يمينا وشمالا كنجمة سينمائية تتحرى التألق في كل الأوقات ، .. :ـ لكن ـ يا أروى ـ ، يا صغيرتي ، ما زال المستقبل أمامنا ولا ينبغي الآن أن يتعلق قلبنا بأحد ، فقط بالمذاكرة والتفوق وحسب ، لا بأس أن يكون معك بالفصل أولاد مجتهدون ومتفوقون وماهرون ، لكن علاقتك بهم لا يجب أن تتعدى بحال علاقة الزمالة ، لا نلعب سويا ، لا نخرج سويا ، لا نجلس سويا ، فتلك مرحلة متقدمة ستمرين بها ـ لا شك ـ في يوم من الأيام ، وعندها سيكون هذا الوضع طبيعيا ومُتقبلا من الجميع ، وذلك الوقت أنا من سيخبرك به ، وستجدين مني التشجيع المناسب ، لكن الآن عديني ألا تنظري لهذا الفتى مرة أخرى غير نظرة زميل في الفصل ، ولا تتحدثي عنه مع أي أحد .. الجميل أن هذا الكلام راقَها جدا ، وباتَ الحديث عن الفتيان مجرد فخر بتفوقها عليهم ، تنافسهم بقوة في التحصيل الدراسي ، كانت تعود يوميًّا محملةً بأكوام من الحكايا والمغامرات الدراسية .. :ـ اليومَ صفَّق لي الجميع ، :ـ اليومَ نلتُ إعجاب مدرس اللغة الإنجليزية وشكرني أمام الجميع ، :ـ اليومَ أخبرتني معلمة التربية الفنية أنني أكثر من بالفصل مهارة فنية ، :ـ اليومَ سُئِل الفصلُ كلُّه سؤالا في مادة العلوم ، ولم يُجب أحد سواي ، :ـ اليومَ تم تكريم الطلبة والطالبات الأوائل وكنت بينهم ... وهكذا لم يمر يوم دون أن تُمتعني ( أروى ) بتفوقها الذي ينو يوما بعد يوم ، وكذلك بخفةِ ظلها المعهودة .. أذكر جيدا ذلك اليوم وقد أخذتْها ( هيستريا ) عارمة من الضحك أمامي قُبيل خروجي من المنزل بلحظات ، طفقَ صوتُ قهقهتها الناعم الرقيق يتعالى ، وأنا لا أدرى علام تضحك ؟ ومتعجب جدا للأمر ، من قوة الضحك ارتمت على الأريكة واستلقت على ظهرها واضعةً يدها على صدرها وسَعَلَتْ من فَرْطِ الضحك ، أخذتُها في حضني وأنا أضحك لضحكها ، ولا أدري فيم الضحك أخذنا نضحك ونضحك ونضحك ، وبعدما هدأتْ ثورة الضحك هذه قالت :ـ أبي أنت ترتدي الشَّرَابَ فردةً وفردةً ( ههههههه ) ... ( آاااااه ) ـ يا أروى ـ يا صغيرتي ، جميييييييل جدا ، كل هذا كان جميييلا ـ يا أروى ـ الجميلة ، لكن (مرح ) ما زالت تنتظرك يا صغيرتي ، تنتظرك بشوق ، وتتحدثك إليك وكأنك بجانبها ، مشهد يدمي قلبي المنفطر .. نعم نعم ، لقد قلت لكم إنني الراعي القوي الذي لا يبدو أبدا ضعيفا منهزما ، آليت على نفسي أن أبقى مصدر القوة الحكيمة ، وتظل أمُّهما منبعَ الحنان المتعقل ، ومع كل ما يلاقينه مني من شدة وقسوة إلا أنهن يرقَقْنَ لحالي حدَّ البكاء حينما يصيبني دور ( أنفلونزا ) بسيط ... لا أدري لماذا أخفيت عنهنَّ إصابتي بـ (السكري ) وطفقتُ أنخز جلدي بـ ( الأنسولين ) يوميا خفية ؛ ألهذا السبب ؟ ، أم لأنني ما زلت مُتلبّسا دور الـ ( هيرووو ) الذي لا يُقْهر أبدا .. شَقَّ الأمر عليَّ عندما وَضَعَتْ تلك الممرضة الغليظة نقطتين في عينيّ ( أروى ) المسكينة تمهيدا لقياس نظرها عند طبيب العيون ؛ لأنها كانت بحاجة لنظارة ، تألمتْ المسكينةُ كثيرًا وظلتْ بهكذا حال لباقي النهار تقريبا ... نعم ، وبقيتُ أنا بهذه القوة محافظًا على صحتي ، صامدا بكل صلابة أمام أعراض الشيخوخة التي أخذت تقتحم بدني ، لم أسمح لشعور تأخر الإنجاب حتى أوائل الأربعين من عمري أن يختلجني فيعيق إدارتي للبيت ويثبط همتي عندما كنت أخلو لنفسي أجمع وأطرح السنين ، وأتساءل :ـ كم سيكون عمري وشكلي وجسمي حينما تصبحان هاتان العصفورتان في مرحلة الفتوة والشباب ؟ ، هل سيجعل ( الزهايمر ) ـ الذي يأكل أمخاخ الشيوخ ـ مني كمًّا مُهْمَلا لا يأمر ولا يَنْهى ولا يُؤخذ برأيي في كل شاردة وواردة كما كنت ؟ ، ثم أعود أدراج الفكر ، فأقف على عزيمة حديدية مُؤْلِيًا على نفسي ألا تلين عريكتي لليأس أبدا ، فأجدني خمسينيا بروح ابن العشرين عازما على إيصال هاتين الضعيفتين إلى بر الأمان ... كنت ألهو معهما كما لو أني صبي في سنهما ، أسابقهما في الجري أثناء رحلاتنا الخلوية ، وأغلبُهما في ألعاب ( البلاي استيشن )
... ومع كل تلك الصلابة حاولتُ الانتحارَ مرتين ـ حتى الآن ـ قبل إخضاعي للتأهيل النفسي المُكَثَّف ، وما زالتْ (مرح ) المسكينة تجلس وحيدة في انتظار أختها الكبرى ، ولا يستطيع أحد إخبارها بأنها ستتأخر طويييييلا طوييييلا ، ولن تعووود أبدا لأنها ماتت داخل تلك الحافلة الملعونة تحت عجلات ذلك القطار الأعمى .. وربما لن أمحو هذا التسجيل الذي تعترف فيه ( أروى ) اعترافها الخطير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
تمت