جلست هند بثوبها المهلهل
وحذائها المتآكل جلده، بعد أن شبعت منه الطرقات،
وأطلت قدماها منه، وشعرها الذي قلب
كيانه الهواء وبهَّت لونه التراب، ووجنتيها
الحمراواتان اللتان قد لطشهما المناخ، وشفتيها التي اكتسبت لون الكرز بدون أن تعرفه
ولم تذقه يومًاقط ، وعيناها اللتين بلون البحر الذي ضحك اليوم لعم حسين الصياد، غمزت صنارته فأصطاد قائلا بفرح
: قرموط إنما إيه
بن عز صحيح مليان وعفيّْ. وضعه في وعاء عميق به ماء، تركه صاحيا لتفرح به هند وتلعب
معه ثم راح يكمل صيده مستبشرا، كله أملٌ أن
هناك رزقٌ أوفر ينتظره، ليبيعه وبثمنه يشترى
ولو حذاءً يدفئ قدمَي ابنته العاريتين.
لعبت هند قليلا مع
القرموط، ثم تركته عند بائع الزهور لتسعى لرزقها،
لعلها تحقق حلمها بشراء كسوة تحتضنها قبل أن يشتد البرد أكثر ويأكل من جسدها
الضعيف.
مشت تبيع الفل للعشاق،
كل طيرٍ مشغولٌ بوليفه لم ينتبه لها أحدٌ، هند ذات نفسٍ عزيزة، لا تلح على أحدٍ بالشراء، وقفت وظهرها للبحر فضحكت لها إشارة المرور تناديها وكأنها أوقفتهم لهند لعلها تبيع لإحدى السيارات، وأطلت بوجهها الصبوح الذي قبلته وطبعت عليه الأتربة
طلائها الأسود، وهى تنادى بين السيارات ببحة صوتها الجذاب: الفل يا سيد الكل الفل لست
الكل.
نادت عليها سيدة ملامحها
معبرة مرسومة بخليط من الرقة والرحمة، اشترت منها الفل بمائتي جنيه، وأعطتها لها كاملة، بشرط أن تشترى ثيابًا وحذاءً يحمياها من برد الشتاء.
فرحت هند بالنقود،
أخيرًا ستحقق حلمها، ولكن الفرحة لم تكتمل طارت مع النقود وقد خطفها الهواء عائدًا
بها لنفس الطريق التي جاءت منه هند، يا له
من مشاكس يداعبها مداعبةً ثقيلة، طارت ورائها، فحطت على عربة البطيخ المركونة على الطريق،
قبل أن تمد يدها لتأخذها جرها صاحبها، هرولت ورائها ولحقت بها حين توقف البائع بعربته
مرة أخرى، قبل أن تمسك بها طارت بين أقدام السائرين، وهند تجري كقطةٍ بين أقدامهم حتى
استقرت النقود الورقية على دكة، ربما رأف بها الهواء وأعطاها هدنةً لتأخذ أنفاسها،
فجأة جلست سيدة فوق النقود بدون أن تنتبه لها، وكأن الهواء يداعب هند وحدها، بدون أن
يخبر أو ينبه أحد المارة بالنقود، ترقبتها هند في انتطار أن تقوم السيدة، خشية أن تطمع
فيها إذ لمحتها، فلن يصدق أحد أنها نقود هند.
وأخيرا قامت السيدة، فهز الهواء النقود الورقية بشدة وكأنه يغيظها، وأخذت
تطير وتطير حتى استقرت حيث كانت هند جالسة، وحين وصلت بين الدكة وبائع الورد،فجأة انشقت
الأرض وبلعتها، بحثت عن حلمها ودموعها المنهمرة لوثت وجهها، ورسمت مع الأتربة خريطة
حزن، عاد والدها وقد حان وقت عودتهما للمنزل،
عيناها زائغتان تلتفت حولها، وأخيرا دخلت محل الورد لتأخذ وعائها، و هناك وجدت
المائتي جنيه تبرق لها فرحا، قبضت هند عليها بكفيها الصغيرين كجناح حمامة بيضاء، وبضحكتها
البريئة المنداة بدموعها و قالت: مسكتك يا متعبة.
........
دعاء أحمد شكري