نموذج للسينما السياسية في مصر ...
أفلام"لاشين" و "المتمردون" و "البريء" ناقشت قضايا سياسية بجرأة شديدة و صنعت بمنتهى الإبداع و هي تعتبر أصدق مثال على السينما السياسية في مصر ، و المقصود بالسينما السياسية هي الأعمال السينمائية التي تناولت قضايا سياسية معاصرة بالنقد و التحليل ، مع تقديم رؤية صناع الفيلم للواقع و الأحداث التي تواكب إنتاج الفيلم ، و مع أننا لا ننكر أن السينما المصرية على مدى تاريخها الطويل قد أنتجت العديد من الأفلام التي يمكن أن نطلق عليها أفلاما سياسية ، إلا أن الأفلام التي تميزت بالجراءة و تم انتاجها بمستوى جيد لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة .
و بالرغم من كثرة الأفلام التي تناولت الواقع السياسي إلا أن فيلما واحدا تم إنتاجه في عهد الملكية يمكننا أن نطلق عليه فيلما سياسيا بل فيلما ثوريا ، و هو فيلم لاشين ، الذي تم إنتاجه سنة 1938م ، و كان من بطولة حسن عزت و نادية ناجي و حسين رياض و أخرجه الألماني فريتز كرامب عن سيناريو و حوار لأحمد بدرخان الذي اشترك معه في الحوار الشاعر أحمد رامي ، و يعد فيلم لاشين من أفضل الأفلام المصرية على مدى تاريخها ، حيث احتل الفيلم المرتبة 22 في قائمة أفضل 100 فيلم مصري .
يعد فيلم لاشين أحد أبرز الأفلام التي لامست واقعا سياسيا و ناقشته بجراءة شديدة ، حيث دعا الفيلم لثورة الشعب على ظلم الحاكم و فساد حاشيته ، و كان جزاء الفيلم أن تم وقف عرضه في أول يوم عرض له ، و لم يتم عرضه إلا بعد أن تم تغيير نهاية الفيلم التي كانت تدعو لخلع السلطان لنهاية أخرى يهتف فيها الشعب للسلطان العادل و يهاجم فيها الحاشية الفاسدة !!! .
و حينما تجرأ المخرج أحمد بدرخان في أوائل الخمسينيات من القرت العشرين و صنع فيلم "مصطفى كامل" عن حياة الزعيم الشاب و نضاله ضد الإستعمار تم منع عرض الفيلم ، و لم يتم عرضه إلا بعد يوليو 1952م ، و بعد درس فيلم "لاشين" و من بعده فيلم "مصطفى كام" تعلم صناع السينما المصرية البعد عن السياسة رغم دعاوى الديمقراطية و التعددية الحزبية قبل يوليو 1952م ، و بعد يوليو صنعت أفلام كثيرة تهاجم العهد الملكي و تبرز مساوئه ، و لكن ظلت السينما متصالحة و مهادنة للعهد الجديد و نظام الحكم الجديد ، فقط كانت السينما أصبحت تهاجم العصر الملكي .
ظهرت في الستينيات من القرن الماضي بعض المحاولات لصنع سينما تنقد العصر الجديد ، و كانت بالفعل مبادرات شجاعة في ذلك الوقت مثل أفلام "ميرامار" و "القضية 68" و "العصفور" و "ثرثرة فوق النيل" و "شيء من الخوف" لحسين كمال الذي كاد يمنع من العرض لولا الرئيس جمال عبد الناصر الذي صرح بنفسه بعرض الفيلم و قال يومها كلمته الشهيرة :"احنا مش عصابة ، و لا أنا رئيس عصابة و لو كنا كده يبقى نستاهل الحرق !!!" ، و كان هذا الفيلم بعد هزيمة 5 يونيه ، لكن المخرج توفيق صالح أخرج فيلمه "المتمردون" قبل الحرب ، و كان فيلمه هذا بمثابة السير في حقل الألغام حيث وجه أقسى نقد لنظام يوليو ، بل إن الفيلم شكك في صلاحية القيادة السياسية نفسها ، و اتهمها بالإستبداد و الإفتقار للرؤية و المنهج في الحكم .
فيلم "المتمردون" بدأ إنتاجه سنة 1966م ، لكن تم عرضه في سنة 1968م بعد حذف ما يقرب من 25 دقيقة من أحداثه ، و كما تم إجبار مخرجه على تصوير نهاية جديدة تبشر بالأمل القادم مع الثورة ، باعتبار أن الأحداث تدور قبلها ، و هذا الفيلم من بطولة شكري سرحان و زيزي مصطفى و توفيق الدقن و محمد توفيق و تأليف محمد عثمان و اشترك معه في كتابة السيناريو المخرج توفيق صالح ، و يعد الفيلم من أفضل الأفلام المصرية حيث احتل المرتبة 78 في قائمة أفضل 100 فيلم مصري .
و في السبعينيات تم إنتاج العديد من الأفلام التي تهاجم الفترة التي سبقتها و تتهمها بالفساد و الديكتاتورية و الإنتهازية ، كما تم اتهام أفراد النظام السابق باستغلال مراكزهم في الطغيان و التجبر و الإعتداء على أفراد الشعب و قمع الحريات في أفلام مثل "الكرنك و آه يا ليل يا زمن و طائر الليل الحزين و احنا بتوع الأتوبيس" ، لكن لم يقترب صناع السينما أبدا من النظام الحاكم وقتها و لم يوجهوا للنظام أي نقد في أفلامهم .
و في الثمانينيات صنعت أفلام تهاجم و تنتقد نظام الحكم في السبعينيات ، و كان التركيز على أحداث مظاهرات 18 و 19 يناير 1977م حيث تم تقديم فيلمي "زوجة رجل مهم و الهجامة" و في نفس الوقت لم تقترب السينما أيضا من نقد النظام الحاكم وقتها ، إلا في فيلم "البريء" ، الذي بدأ إنتاجه سنة 1985م من بطولة أحمد زكي و محمود عبد العزيز و ممدوح عبد العليم عن سيناريو و حوار وحيد حامد و إخراج عاطف الطيب ، و يحتل الفيلم المرتبة 28 في قايمة أفضل 100 فيلم مصري ، و بالطبع بسبب جراءة الفيلم الشديدة في تناول القصة تم منعه من العرض ، و تم تشكيل لجنة لبحث مصير الفيلم ، كانت مكونة من وزير الدفاع وقتها محمد عبد الحليم أبو غزالة و وزير الداخلية أحمد رشدي و وزير الثقافة أحمد هيكل ، و صرحت اللجنة بعرض الفيلم لكن بعد حذف نهاية الفيلم الأصلية ، و هي التي يطلق فيها بطل الفيلم المجند أحمد سبع الليل الفولي نيران سلاحه على قادته في هستيرية و يقتلهم جميعا بأخرى حيث يصرخ المجند صرخة لا معنى لها .
التعامل مع فيلم البريء كان عاصفا ، و يدل على أن من طلبوا من مخرجه تغيير نهاية الفيلم لم يفهموا مقصد الفيلم ، الذي يعتبر و كأنه تحذير من إنفجار إعصار عساكر الأمن المركزي ، و هو ما حدث بالفعل بينما كانت اللجنة تناقش مصير الفيلم ، حيث اندلعت مظاهرات الأمن المركزي في 25 فبراير 1986م بينما عرض الفيلم في 15 أغسطس 1986م .
المصادر :
كتاب إتجاهات السينما المصرية "علي أبو شادي" .
موقع السينما . كوم .
تحياتي : خطاب معوض خطاب .