( وَصِيَّةُ أَبِي تَمَّامٍ لِلْبُحْتُريِّ )
قالَ الوليدُ بن عبيد البحتريُّ: كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ
أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه،
حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه ؛
فكانَ أوَّل ما قال لي : يا أبا عُبادة ؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنتَ قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ
من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ جَرَتْ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ
شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ
الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. وإنْ أردتَّ التَّشْبيبَ ؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَشيقًا،
والمعنَى رَقيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ ،
ولَوْعَةِ الفِراقِ. فإذا أَخَذْتَ في مَديحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ،
وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. ونَضِّدِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ
مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الرَّدِيئةِ ، ولْتَكُنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ
الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسادِ. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ ، ولا تعملْ
شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ
نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن
شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛
ترشد إن شاءَ اللهُ.
قالَ: فأعملتُ نَفْسي فيما قالَ؛ فوقفتُ علَى السياسةِ.
فقلت :
من أين نأتي براحة البال و فراغ القلب يا أبا تمّام !!!
و قلتُ :
أمـسِكْ عَـليكَ سِـياطَ اللَوم ِ يا كَمَدي
فَـقد بَـلَغنَ نُـخاعَ الـعَظم ِ مـن جَـلَدي
........................................
أســرَفـنَ مُـعـتَـدِياتٍ فـــي مُـعـاقَبَتي
فـالجَلدُ جـاوَزَ عِـلمَ الـناس ِ فـي العَدَدِ
.......................................
رَحـــى الـمَـتـاهَةِ وا قـلـباهُ تَـطـحَنُني
طَـحنَ الحواقِـدِ بَينَ الطَيش ِ و الرَشَدِ
.......................................
و الــهَـمُّ بَـعـثَـرَني فـــي كــلِّ نـاحِـيَةٍ
مَن لي بجَمع ِ شَتاتِ الروح ِ و الجَسَدِ
........................................
و الـنَـفسُ راغِـبَـةٌ عــن كــلِّ شَـهوَتِها
زُهـــداً بـعَـيـش ٍ مَـريـر ٍ يـابـس ٍ نَـكِـدِ
........................................
أخَــــذتَ ثــــأرَكَ أضــعـافَـاً مُـضـاعَـفَةً
أمـــا كــفـاكَ شَـقـائي الـعُـمرَ لا تَــزِدِ
.......................................
مـــا كُــنـتَ مُـنـتَـهِياً و الـظَـنُّ أنَّــكَ لا
يَـشـفي غَـلـيلَكَ تَـعـذيبي الـى الأبَـدِ
............................
أسامة سليم