أخيراً وبعد طول إنتظار ، جاء ساعى البريد مبشراً وبين
يديه حوالة
بريدية وصوته يسبقه
-- الحوالة جت يا ست سهير...الحوالة وصلت
إندفعت سهير كسهمٍ أطلق من نشابه خارجةً عبر باب الشقة ،
داعبها الساعى ملوّحاً بالحوالة البريدية
-- الحلاوة يا ست سهير
إختطفت الحوالة من يده وفتحتها ، وعيناها تبحث فى لهفٍ
عن شئٌ ما..وجدته
مدوناً فى منتصفها ، دستها فى جيب جلبابها ، وإستدارت
مسرعة إلى
الداخل وهى تخاطبه
-- إستنى يا خويا ..راجعالك
عادت وفى كفها جنيهاً ورقياً ، دسّته فى يده الممدودة ،
وبدوره دسّه فى جيب بنطاله وأنصرف شاكرا .
أغلقت الباب وجلست على الأريكة مسترخية ، ثم ما لبثت أن
أخرجت الحوالة من جيبها ، وأفردتها بين يديها وعينيها ، لتعيد قراءتها مراتٍ ومرات .
مرت فى طريق عودتها من الصرافة على عم دياب ، وأعطته
الألف
ريال المتفق عليها وشكرته على جميله
-- إن شاء الله يا حاج..الشهر الجاى خمسميت ريال
إبتاعت فى طريق عودتها بعض الفاكهة ، وبالطبع لم تنس
المرور على الجزار .إستقبلتها الست جمالات على السلالم
الأخيرة ، وحملت عنها كيساً من أكياس الفاكهة ، ريثما تفتح سهير باب شقتها ،
دخلت وتبعتها جمالات التى سارعت بوضع الكيس الذى تحمله على الأرضية ، بجوار
الأريكة وهمّت بالإنصراف إلا أن سهير أمسكت بها ، وأصرت بإلحاح أن تمكث
بضع دقائق .
إنصرفت جمالات وفى صدرها المائة جنيه وقد رُدت إليها ،
وبين يديها
كيس به برتقال ويوسفى وموز ، ولسانها ما كف عن الدعاء
لها بسعة الرزق ولم الشمل ، وسهير فى أثرها حتى أغلقت الباب.
أربعة أشهرٍ مضت ، أتمت سهير تسديد الأقساط الأربعة لعم
دياب ، وأعادت طلاء شقتها الصغيرة ، إختارت اللون الوردى لطلاء غرفتها
،مستعيدةً أحلام مراهقتها ، عندما كانت تتخيل
نفسها عروساً...إنتابتها رعشةً خفيفة ..تنهدت تمتمت...
-- هو فين العريس بس ؟؟
ساعدها عم دياب فى البحث عن أنتريه مستعمل ، إلى
أن عثر عليه
فأبتاعته ، وتخلت عن الأريكة ذات الأزيز .
إختلست سهير جزءً من المال ، وأبتاعت بدلة رقص لونها
أزرق ، مرصعة بحلقات معدنية صغيرة لتمارس هوايتها المحببة .
أما سارة فقد غافلت أمها ، وأقتطعت مبلغاً ضئيلاً ،
وأبتاعت كتاباً رخيص الثمن ، كان عنوانه " اللذة الجنسية عند النساء والرجال
" ، إشباعاً لرغبات عرفت طريقها مبكراً إلى فكرها ، وجوعاً بدأ ينشب مخالبه
فى
حنايا جسدها الممشوق.
منذ أيام قليلة تجاوزت سارة عامها السادس عشر ، وبدأت
أولى خطواتها متسلقةً سلالم عامها السابع عشر ، إلا أن جسدها كان فائراً قافزاً
بها على عتبات العشرينات ، شعرها خيوط سوداء حريرية تنساب فى نعومة مذهلة لتلامس
أطرافها أعلى ردفيها ، وصدرٌ ناهد وثديان متكوران كحبتى برتقال ،
ردفيها منحوتةٌ رائعة الجمال ، خطواتها الراقصة فى دلال قل نظيره
،عيناها النجلاوتان تعبران بصدق وشفافية ، عما يتماوج داخل حناياها من ظمأٍ وجوع ،
كانت فى حقيقتها إمرأةً ناضجة ، بل فى غاية النضج ومكتملة تمام الإكتمال ، مرت من أمام
أمها وهى فى طريقها إلى الحمام ، لفت نظرها خطواتها الراقصة....تمتمت
-- البنت كبرت !
تذكّرت الست جمالات وهى تحادثها همساً
-- بسم الله ماشاء الله..سارة بقت عروسة...خدى بالك منها يا سهير
يا ختى عرًّفيها الصح من الغلط
فأجابتها مستنكرة
البت لسّه فى ثانوى يا جمالات ومفيش داعى أفتّح
عينيها من دلوقتى .
تعمدت سهير نقل دفة الحديث إلى مواضيع أخرى ، غيرراغبةً
فى الخوض فى متاهات هذا الحديث الشائك .
تذكّرت كل ذلك ، ولاحظت بوضوح أن خطوات إبنتها تكاد
تتكابق مع خطواتها ، بما فيها من أنوثة ودلال.
رأت أمامها إمرأةً ناضجة بكل ما تحمل الكلمة من معنى .
إنزوت سارة خلف جدران غرفتها ، بينما إنهمكت سهير فى
متابعة أحداث المسلسل العربى المتوالية أمام عينيها على شاشة التلفاز .
تلاشى القلق الذى ساورها لدقائق وما لبث أن إختفى تماماً .
دقائق أخرى إنقضت ، تترات نهاية الحلقة تتابع ، تنقلت
سهير بين القنوات علّها تعثر على شئ يؤنس وحدتها ، أغلقت التلفاز ونهضت فى تكاسل .
إستلقت على سريرها ، نفير سفينة يتصاعد متصلاً ، ذهب بها
إلى حيث يقيم زوجها ، ثم ما لبث أن تلاشى النفير ، إلا أن ما تراءى لها فى
مخيّلتها
واصل تتابعه ، ولم يتوقف أو يتلاشى...حسن !...كان مرهقاً ،
حاول جاهداً أن يلبى رغباتها المتقدة ، ليطفئ ولو جزءً من النار التى تعصف بها
...أوهمته أنه أفلح ولم يكن كذلك ! ، إستراح وخلد إلى نومٍ عميق وتركها يقظة تتلظى
.
تحسست بيدها أجزاء فى جسدها ، النار ما زالت مشتعلة ، ما
يزيد على تسعة أشهر بلياليها الباردة برودة الثلج ، ومازالت مشتعلة .
نهضت..فتحت خزانة ملابسها ، إلتقطت بأصابعها المرتعشة
بدلة الرقص الزرقاء ، إرتدتها ، تأملت نفسها فى المرآة ـ هاتفتها عيونٌ منعكسة
" أريد رجلاً !!"...
طأطأت رأسها يأساً ، أدرات الكاسيت ،وأنخرطت تتلوى
راقصةً على
أنغام التت .
اللهم أجعله خير !..تمتمت بصوتٍ خفيض ،وهى تطوى
الورقة التى بين يديها ، ثم لا تلبث أن تفتحها وتعيد قراءتها ، همهمت لنفسها والقلق
أخذ طريقه وتربع على فكرها
-- يا ترى فيه أيه يا حسن ؟
وساوس شتى تلاعبت بها ، وبدت جلية فى حدقتى عينيها
الواسعتين ..
" هيسيب الشغل ؟ "...
" طردوه ؟ ".
"لأ..لأ..حسن شاطر وغلبان ومش بتاع مشاكل "...
" آمال أيه بس ؟ "...
" زهق من الغربة ؟ "...
" أكيد ...حسن عمره ما خرج بره المدينة...ده حتى عمره ما نزل
مصر...السعودية خبط لزق!! "...
" أكيد زهق...لأ ..لأ ..معقولة !...ده كان هيموت ويسافر ...أكيد
مريض".. .إنتبهت ...باب
الشقة يُفتح ، إندفع تامر كعادته صوب الحمام ، بينما إتجهت سارة نحوها ، وألقت
بحقيبتها المدرسية بجوار قدميها ، وجلست مسترخية على كرسى منفرد
.
لفت نظرها نظرات أمها القلقة وعيونها الشاردة ، إنحنت
ناحيتها وهمست
-- فيه أيه يا ماما ؟...مالك؟
خرجت الكلمات من بين شفتيها تنتزعها إنتزاعا
-- أبوكى هيكلمنى فى التليفون بعد يومين...عند عم دياب
قاطعتها سارة فى لهفةٍ ظاهرة
-- ليه ؟...هو حصل له حاجة؟
تمتمت سهير وهى تدعك كفيها
-- والله ما أنا عارفة يا بنتى
وألتفتت إلى إبنتها ....أردفت فيما يشبه الهمس
-- اللهم إجعله خير
الساعة جاوزت العاشرة صباحاً بدقائق ، سهير جالسة على
مقعد خشبى داخل محل عم دياب ...رعشة قلق تسرى فى مفاصلها ، وعم دياب
يحاول جاهداً بث الطمأنينة مهدئاً من روعها
-- ما تقلقيش يا بنتى..دقائق ويتصل
صمت للحظات ثم أردف
-- خير إن شاء الله...خير إن شاء الله
علا رنين الهاتف مدوياً ، وفى سرعة البرق إلتقطت يدها
سماعة الهاتف ، جاءها صوته هادئ النبرات متسائلا
-- سهير ؟
-- أيوه يا حسن..إنت بخير يا خويا ؟
-- الحمد لله...الأولاد عاملين أيه ؟..وإنتى؟..إنتى كويسة ؟
ردت عليه وقد بدأ القلق يخفت تدريجياً
-- الحمد لله ..كلنا كويسين
صمتت لحظة تلتقط أنفاسها ثم أردفت
ومشتاقين لك يا خويا..قل لى يا حسن..
قاطعها وقد سبقت كلماته ضحكة خفيفة
-- إسمعى يا ستى...ربنا وفقنى ومسكت شغل تانى من الساعة ستة لحد
الساعة عشرة وبنفس الأجر
قاطعته فرحة
-- وماله يا خويا ..ربنا يزيدك كمان وكمان
قاطعها موضحاً
-- بس كده مش هأقدر أنزل لكم قبل سنة كمان،وإلا هتضيع الشغلانة
الجديدة
صمت ثوانٍ ثم أردف
-- إنتى رأيك أيه يا حبيبتى ؟
أجابته فى سرعة خاطفة ، لم تمهل نفسها دقيقة واحدة لتفكر
، فالقصة تعنى مزيداً من المال ، وكان هذا وحده سبباً كافياً فى نظرها
-- لا يا حسن ما جاتشى من سنة كمان وبعدين ترتاح يا خويا
أجابها بتؤدة مؤكداً على كلامها
-- هو ده رأيك؟
-- اه يا حسن
صمتت برهة ثم أردفت فى نعومة
-- إنت حر يا خويا وأدرى بظروفك
كانت تعلم علم اليقين ، إنه لن يراجع رأيها ، وسيبقى
عاماً آخر
-- ماشى يا سهير ..بس لىّ عندك طلب وعم دياب هيساعدك فيه
قاطعته متعجلة
-- إنت تأمر يا حسن
-- قدّمى على تليفون منزلى علشان أبقى أطمئن عليكم
-- وماله يا خويا ..من بكره إن شاء الله هأقدّم عليه
غادرت المحل شاكرةً عم دياب, ووجهها يتهلل فرحاً ،
أنهارٌ من السعادة تتدفق من عينيها ، كانت قد حسبتها حسبةً بسيطة ولكنها مفرحة...
سيتغير الرقم المدون فى منتصف الحوالة من ألف وخمسمائة ريال ليصبح على أقل
تقدير...ثلاثة آلاف ريال من الريالات السعودية .
إندفعا مجتازين باب الشقة ، يتسابقان أيهما يصل إلى حيث
كانت أمه أولاً ليسمع منها ما يزيل قلقه الماكث ضيفاً ثقيلاً لقرابة يومين متصلين .
كانت سهير واقفة أمام البوتاجاز تتابع فى سعادة اللحم
المطهى فى إنائه .
لم تكن سعادتها باللحم المطهى ، وإنما كانت بثلاثة آلاف
ريال متوقع وصولها فى القريب العاجل .
كان تامر هو الأسبق وصولاً إلى المطبخ ، سألها وهو يلتقط
أنفاسه اللاهثة
-- بابا قال لك أيه ؟
كانت سارة تقف خلفه تماماً تنتظر فى لهفٍ كلمات أمها
-- بابا مرتبه بقى
سكتت فجأة وألتفتت إليهما مترقبةً وقع الخبر السعيد فى
ملامحهما ، هنيهة ثم فتحت شفتيها ببطءٍ متعمد
-- تلات... آلاف... ريال
بعفوية أزاحت سارة أخيها من أمامها ، وأندفعت معانقةً
أمها بحرارةٍ بالغة ، وتكيل لها القبلات من شفاهٍ فرحة ، وقلبٌ يتراقص بين
ضلوعها...كانت تقاربها طولاً...و....أنوثة ! ، بينما تسمر تامر مكانه وعيناه
تائهتان .
لقد أدرك عقله الصغير أن الخبر مُفرح ، ولكنه ولا يدرى لماذا
..توجس خيفة ،شئٌ ما إعتمل فى صدره فأفسد عليه فرحته ، سار إلى غرفته ، وإستلقى
على سريره باكياً فى صمت...لم يدرك بعد أن أباه سيتغيب لعامٍ آخر .
شهران مضيا وأخيراً وبعد طول إنتظار وترقب ، جاء عاملان
من شركة الهواتف لتركيب الخطوط السلكية فى داخل الشقة ، تخيّرت سهير مكاناً داخل
غرفة نومها لوضع جهاز الهاتف .
أنهى العاملان ما يقومان به ، وأنصرفا مؤكدين لها أن
الحرارة ستصل إلى الجهاز خلال ثلاثة أيام على الأكثر .
مضت الأيام الثلاثة تاركةً ظلالها الثقيلة عليهم ، وقبيل
غروب شمس اليوم الرابع ، علا رنين الهاتف معلناً بعث الحياة فى الجسد الميت.
سارعت سهير بإرسال برقية إلى زوجها تخبره ، وتهنئه
بالوافد الجديد ولم تنسى أن تدون رقم الهاتف فى نهاية برقيتها .
كان اليوم التالى يوم جمعة ، أشرقت شمسه فى صفحة سماءٍ
صافية .
سارة مستلقية فى سريرها تقرأ فى نهم كتابها المفضل ...كانت
تلك المرة العاشرة التى تعيد فيها قراءة الكتاب ، أعجبها التطابق شبه التام بين ما
تشعر به كأنثى وبين ما هو مدونٌ فى سطوره ، تقرأها وتتخيلها وتمارسها
بمفردها .
تامر ما زال نائما ، بينما سهير مسترخية فى الصالة تنتقل
بين قنوات التلفاز، تبحث عن لاشئ ، فما تريده وتشتاق إليه وتتمناه ، حتماً لن تجده
هنا..على شاشته .
فجأة علا رنين الهاتف ولم يتوقف ، إندفعت سهير وتبعتها
سارة إلى غرفة النوم .
إلتقطت سهير السماعة ، كان حسن على الطرف الآخر كما توقعت ,
أشارت لسارة أن توقظ أخاها ليحادث أباه .
أنهت حديثها مع زوجها ، وأعطت السماعة لسارة ثم تلاها
تامر الذى بادر أباه بسؤاله المباغت
-- إمتى هتيجى يابابا ؟
-- لسًه يا حبيبى قدامى سنة كمان
سكت هنيهة كمن يتذكّر شيئاً ...أردف
-- هى ماما ما قالتلكشى ؟
كان تامر قد ذهب بعيداً غارقاً فى أعماق المجهول ، وقد
تدلّت يده الممسكة بسماعة الهاتف .
إندهشت سهير مما تراه بادياً فى وجه إبنها ، أخذت
السماعة من يده
المتدلّية ، كان حسن ما زال منتظراً على الطرف
الآخر...سألته بعصبية
-- هو أنت قلت له أيه؟؟
أجابها بعفوية وإستغراب مما يحدث
-- ولاحاجة..سألنى هأنزل إمتى ..قلت له بعد سنة...
صمت لحظة ثم أردف متسائلا
-- هو أنتى ماقلت.....
قاطعته
-- قلت له ..بس أكيد هو اللى ما فهمشى .
الليل أرخى ستائره على سماء المدينة وشوارعها ، فهدأت
الحركة وخفت أصوات المارة إلى أن تلاشت أو كادت .
أغلقت سهير التلفاز ، نهضت ، ألقت نظرة خاطفة على إبنيها
، أغلقت مصباح الغرفة وأنزلقت فى هدوء خارجها ، أغلقت الباب..أضاءت
الأباجورة ، فتحت خزانة ملابسها ، أخرجت البدلة الزرقاء ذات
الحلقات المعدنية ، خلعت كل ما على جسدها من ملابس ، إرتدتها ودارت دورتين كاملتين
أمام المرآة ، همهمت لنفسها ..
" جسم رائع...وجائع "...
أدارت الكاسيت ، وتمايلت مع الأنغام المنبعثة علّها تطفئ
جزءً يسيراً
من نارٍ تسرى فى حناياها .
نفير سفينة قادمة من البحر الأحمر علا متقطعاً ، إستيقظت
سهير و إستوت جالسة فى فراشها تتطلّع إلى ضوء الشمس المتسلل عبر فتحات نافذتها
،جاءها صوت ساعى البريد مدويا
-- حوالة يا ست أم تامر
إندفعت مهرولة صوب الباب ، تجمدت يدها على الترباس ، لقد
كانت شبه عارية ، إستمهلته لثوانٍ وما لبثت أن عادت مرتدية روباً أبيض اللون
أحكمت لفه حول جسدها ، إلا أن شعرها المرسل على كتفيها وخلف
ظهرها زادها جمالاً وروعة .
أغلقت الباب وخلعت الروب ، وجلست على الأريكة ، وسارعت
بفتح الحوالة لتستقر حدقتيها اللتين إزدادا وجمالاً وبهجة ، كان كل جزء من أجزاء
جسدها يرقص فرحا ...".أربعة آلاف ريال !! "...
لم تصدق عينيها ...كان مبلغاً أكبر بكثير من كل توقعاتها
السابقة .
خلدت سارة إلى النوم ، بينما تامر كان قد سبقها إليه .
جلست سهير القرفصاء فوق فراشها ، وأمامها عدة لفائف
ورقية ، أفردتها على السرير عدة مرات ، وأعادت عدها....أربعة عشر ألف ريال
...هى كل ما تمكنت من إدخاره طيلة عاماً وستة أشهر ، جمعتهم معاً فى مظروف متوسط
الحجم ، أحكمت غلقه ودسّته أسفل مرتبة سريرها
إستلقت على ظهرها ، عيناها تجوبان سقف الغرفة لا تستقران
على شئ ،عقلها يدور فى دوائر لا تجد لها بدايةً ولا نهاية ، تذكرت قول حسن لها
.." إذا إحتاجتى لشئ ..روحى لعم دياب "...
فلتلجأ إذن إلى عم دياب .
جلس ثلاثتهم ، عم دياب وسهير وسارة يتبادلون الأفكار
بحثاً عن مشروع بسيط ، يستثمروا فيه ما أدخرته من مال ، ليعود عليهم بربحٍ ولو
بسيط .
دام النقاش لما يزيد عن الساعة ، فجأة لمعت عينى سارة
ذات السبعة عشر ربيعاً لمعاناً لافتاً وبادرتهم قائلة
-- أحسن حاجة يا ماما نشترى سيارة أجرة
صمتت برهة ، تطلّعت إلى وجهيهما ، لمحت إهتماماً
...إستطردت
ده مشروع بيجيب فلوس كل يوم ..المهم بس إن يكون
السواق راجل
أمين وبيخاف ربنا
تقبل عم دياب الفكرة بإستحسان واضح ، بينما بدا الإرتياح
جلياً فى
قسمات وجه أمها ، التى سرعان ما بادرت عم دياب قائلة
همّتك يا عم دياب فى البحث عن سيارة كويسة وأنا يا
حاج جاهزة بالفلوس .
نهض عم دياب واقفاً ، وتوجه صوب باب الشقة وهو يتمتم
-- إتكالنا على الله يا أم تامر
سارعت سارة بفتح الباب ، وعندما بلغه العجوز ، إلتفت إلى
سهير وقال
-- البت دى يا أم تامر...دماغها عالية قوى..ربنا يباركلك فيها
إنصرف الرجل هابطاً ببطء فى طريقه إلى خارج المنزل ، وهو
منشغل
الذهن بما كُلف به من البحث عن سيارة مضمونة .
فى صبيحة اليوم التالى ، إتصل عم دياب مبشراً بعثوره على
سيارة مستعملة ولكن حالتها ممتازة ...قاطعته سهير والفرحة تطغى على ملامحها
-- القول قولك والشورة شورتك يا حاج
سكتت لحظات ثم أردفت وكأنها تذكّرت شيئاً ما
-- إلا قوللى يا حاج ..تمنها كام ؟
جاءها صوته عبر الهاتف صادما
-- عشرين ألف جنيه بس
ردت عله فى هلع وقد صكت صدرها بيدها
-- عشرين ألف!!..لا ياحاج ...غالية قوى
-- السيارة لقطة يا أم تامر
سكتت سهير بضعة ثوان ثم أردفت فى رجاء
-- طب هزها شوية يا حاج
-- هأحاول يا بنتى
أغلق الهاتف وفى نفس اللحظة علا نفيرٌ متقطعٌ معلناً
دخول سفينةٍ عملاقة إلى مجرى القناة فى طريقها إلى الشمال .
جلست سهير على سريرها ، بعدما وضعت سماعة الهاتف فى
موضعها ، وذهنها منشغل فى كيفية تدبير المبلغ المطلوب ، تذكّرت أن غداً هو الموعد
الإعتيادى لإتصال حسن بهم ، همست لنفسها وقد لمعت عيناها ..
" سأطلب منه أن يتصرف ويرسل ثلاثة أو أربعة آلاف ريال فى أقرب
فرصة".
أشرقت شمس اليوم التالى ، وصاحبها رنيناً متصلاً للهاتف
، كان حسن على الطرف الآخر ، بادرته ببث أشواقها له وحنينها إلى حضنه الدافئ ، وكم
هى مشتاقةٌ للإرتماء بين ذراعيه ، ثم سارعت بسرد مزايا مشروعها التجارى وأنهت
حديثها فى نعومة آثرة ، راجيةً أياه أن يبذل قصارى جهده فى التحصل على المبلغ المطلوب
لإتمام الصفقة .
لم يكن فى إستطاعته رفض طلبها ، فقد أحكمت شل تفكيره
وإغلاق أبواب عقله ، وأجادت فتح أبواب قلبه على مصرعيها .
فى الصباح التالى إتصل عم دياب فرحاً ، أخبرها أنه تمكن
من تخفيض المبلغ إلى سبعة عشر ألف جنيه ، تهللت سهير غبطةً ، ورجته البدء فى
إجراءات نقل الملكية والبحث عن سائقٍ أمين .
أنهى العجوز الإجراءات وسهير ترافقه فى كل خطوة ،
وأخيراً إستقرت السيارة أمام باب المنزل .
ترجل الرجل منها وبصحبته صبيه والست أم تامر ، أحكم
إغلاق أبوابها وسلّم مفاتيحها وأوراق التسجيل إلى سهير ، وأنصرف هو وصبيه إلى محله
الصغير ، بينما صعدت سهير السلالم وهى ترقص فرحاً .
...................
محمد البنا