والناظر الي مسالة محاكمة يوسف عقب تجنِّي امرأة العزيز عليه يجد
أن الأمر لو اقتصر علي شهادة قريب الزوج لكانت شهادة واحدة أما بعد الفضيحة والعرض
علي النسوة فاصبحت شهادات كثيرة ببراءة يوسف بغض النظر عن ظلم القضاة والذي يقبع دائما
خلف كل فساد ومحسوبية
بدأ الموضوع ينتشر.. خرج من القصر إلى
قصور الطبقة الراقية يومها.. ووجدت فيه نساء هذه الطبقة مادة شهية للحديث. إن خلو حياة
هذه الطبقات من المعنى، وانصرافها إلى اللهو، يخلعان أهمية قصوى على الفضائح التي ترتبط
بشخصيات شهيرة.. وزاد حديث المدينة (وَقَالَ نِسْوَةٌ
فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا
حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) وانتقل الخبر من فم إلى فم.. ومن بيت
إلى بيت.. حتى وصل لامرأة العزيز.
المشهد الثالث
فَلَمَّا سَمِعَتْ
بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ
وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ
أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَـذَا بَشَرًا
إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي
فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا
آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) (يوسف)
عندما سمعت امرأة العزيز بما تتناقله نساء
الطبقة العليا عنها، قررت أن تعد مأدبة كبيرة في القصر. وأعدت الوسائد حتى يتكئ عليها
المدعوات. واختارت ألوان الطعام والشراب وأمرت أن توضع السكاكين الحادة إلى جوار الطعام
المقدم. ووجهت الدعوة لكل من تحدثت عنها. وبينما هن منشغلات بتقطيع اللحم أو تقشير
الفاكهة، فاجأتهن بيوسف: وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ
فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ) بهتن لطلعته، ودهشن. (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة.
(وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ) وهي كلمة تنزيه تقال في
هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله.. (مَا هَـذَا
بَشَرًا إِنْ هَـذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ) يتضح من هذه التعبيرات أن شيئا من ديانات
التوحيد تسربت لأهل ذلك الزمان.
رأت المرأة أنها إنتصرت على نساء طبقتها،
وأنهن لقين من طلعة يوسف الدهشه والإعجاب والذهول. فقالت قولة المرأة المنتصرة، التي
لا تستحي أمام النساء من بنات جنسها وطبقتها، والتي تفتخر عليهن بأن هذا متناول يدها؛
وإن كان قد استعصم في المرة الأولى فهي ستحاول المرة تلو الأخرى إلى أن يلين: أنظرن
ماذا لقيتن منه من البهر والدهش والإعجاب! لقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه لكنه استعصم،
وإن لم يُطعني سآمر بسجنه لأذلّه.
إنها لم ترى بأسا من الجهر بنزواتها الأنثوية
أمام نساء طبقتها. فقالتها بكل إصرار وتبجح، قالتها مبيّنة أن الإغراء الجديد تحت التهديد
، واندفعت النسوة كلهم إليه يراودنه عن نفسه.. كل منهن أرادته لنفسها.. ويدلنا على
ذلك أمران. الدليل الأول هو قول يوسف عليه السلام (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) فلم يقل (ما تدعوني إليه)..
والأمر الآخر هو سؤال الملك لهم فيما بعد (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ
إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ)
أمام هذه الدعوات -سواء كانت بالقول أم
بالحركات واللفتات- استنجد يوسف بربه ليصرف عنه محاولاتهن لإيقاعه في حبائلهن، خيفة
أن يضعف في لحظة أمام الإغراء الدائم، فيقع فيما يخشاه على نفسه. دعى يوسف الله دعاء
الإنسان العارف ببشريته، الذي لا يغتر بعصمته؛ فيريد مزيدا من عناية الله وحياطته،
ويعاونه على ما يعترضه من فتة وكيد وإغراء. (قَالَ رَبِّ
السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي
كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) واستجاب له الله.. وصرف
عنه كيد النسوة
وهذا الصرف قد يكون بإدخال اليأس في نفوسهن
من استجابته لهن، بعد هذه التجربة ؛ أو بزيادة انصرافه عن الإغراء حتى ما يحس في نفسه
أثرا منه. أو بهما جميعا. وهكذا اجتاز يوسف المحنة الثانية بلطف الله ورعايته، فهو
الذي سمع الكيد ويسمع الدعاء، ويعلم ما وراء الكيد وما وراء الدعاء
ما انتهت المحنة الثانية إلا لتبدأ الثالثة..
لكن هذه الثالثة هي آخر محن الشدة
يسجن يوسف عليه السلام والفصل الثالث من
حياته
ربما كان دخوله للسجن بسبب انتشار قصته
مع امرأة العزيز ونساء طبقتها، فلم يجد أصحاب هذه البيوت طريقة لإسكات هذه الألسنة
سوى سجن هذا الفتى الذي دلت كل الآيات على براءته، لتنسى القصة. قال تعالى في سورة
(يوسف)
ثُمَّ بَدَا
لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) (يوسف)
ولكن ماالأمر إذا انتكس القضاء وحكم الظلم
،وللحديث بقية إن شاء الله
............
عصام قابيل